من طرف صبايا الإثنين أبريل 15, 2019 9:54 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
من ذكر ملك كسرى أنوشروان إلى حلف المطيبين
● [ ذكر ملك كسرى أنوشروان ] ●
لما لبس التاج كسرى أنوشروان بن قباذ ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام بن يزدجرد الأثيم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم، وأعلمهم أنه يصلح ذلك، ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة.
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان، كما ذكرنا، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذٍ عاملاً على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى ذلك، فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي، فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته، وكانت أم أنوشروان يوماً بين يدي قباذ، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ: ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها. فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله، فتركها، فحاك ذلك في نفسه. فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان، فجلس للملك، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك، فإن أنوشروان كان منكراً لهذا المذهب كارهاً له، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذناً عاماً، ودخل عليه مزدك، ثم دخل عليه المنذر، فقال أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين، أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي. فقال مزدك: وما هما أيها الملك، قال: تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف، يعني المنذر، وأن أقتل هذه الزنادقة. فقال مزدك: أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم، فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية، والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا. وأمر به فقتل وصلب. وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم، وسمي يومئذٍ أنوشروان.
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار، فخرج هارباً في صحابته وماله وولده، فمر بالثوية، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة، فذلك قول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسـبّـايا ● وأبنا بالملوك مصفّدينا
وفيهم يقول امرؤ القيس:
ملوكٌ من بني حجر بن عمرو ● يساقون العـشيّة يقتلونا
فلـو فـي يوم معركةٍ أصيبوا ● ولكن فـي ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجـمهم بغسلٍ ● ولكن في الدماء ومرمّلينا
تظـلّ الطّير عاطفةً عـليهم ● وتنتزع الحواجب والعيونا
ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيباً من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه.
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء، وجهزهن من بيت المال، وأنكح نساءهم من الأشراف، واستعان بأبنائهم في أعماله، وعمر الجسور والقناطر، وأصلح الخراب، وتفقد الأساورة وأعطاهم، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الولاة والعمال والحكام، واقتدى بسيرة أردشير، وارتجع بلاداً كانت مملكة الفرس، منها: السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان، وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده.
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها، وكان الطريق سهلاً، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنوداً، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان.
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد، فبلغه عنه أنه زنديق، فسيره إلى جنديسابور وجعله معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه. فبينما هم عنده غذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعاً من الأشرار، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكراً، فحصروه بجنديسابور، وأرسل الخبر إلى كسرى، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيراً، فاشتد الحصار حينئذٍ عليه ودخل العساكر المدينة عنوةً فقتلوا بها خلقاً كثيراً وأسروا أنوشزاد، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي، فوثب بعامل سجستان وقاتله، فهزمه العامل، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد، ففعل وآمنه.
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيراً وحصوناً حصن بها بلاده جميعها.
وإن سيجيور خاقان قصد بلاده، وكان أعظم الترك، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر، فأطاعوه، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده، وإن ثغر أرمينية قد حصنه، فصار يكتفي بالعدد اليسير، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه، وعاد خائباً، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيراً من بلادهم.
● [ ذكر ملك كسرى بلاد الروم ] ●
كان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة، فوقع بين رجل من العرب، كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان، فتنةٌ، فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمةً وغنم أمواله، فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد، وسأله أن يأمر خالد برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد، وإنه إن لم يفعل ينقض الصلح. ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل به.
فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفاً، وكان طريقه على الجزيرة، فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وإنطاكية، وكانت أفضل مدائن الشام، وفامية وحميص ومدناً كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوةً واحتوى على ما فيها من الموال والعروض، وسبى أهل مدينة إنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة إنطاكية وأسكنهم إياها، وهي التي تسمى الرومية، وكور لها خمسة طساسيج: طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادرايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من إنطاكية الأرزاق، وولى القيام بأمرهم رجلاً من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين؛ وأما سائر مدن الشام ومضر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها إليه كل سنة على أن لا يغزو بلاده، فكانوا يحملونها كل عام.
وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر رعيته. ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان. وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه، وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز، وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك، ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة، ثم عاد إلى المدائن. وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد. وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين سنة.
وكان مولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في آخر ملكه، وقيل: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان، وولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنة اثنتين وأربعين من ملكه.
قال هشام بن الكلبي: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذو القرنين لضفيرتين كانتا له، وأمه ماء السماء، وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم ابن النمر بن قاسط، تسعاً وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة. قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك أيام أنوشروان عام الفيل.
فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند، وهي أرض الجوهر، قائداً من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها، فقتله واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً عظيمة وجواهر كثيرة. ولم يكن ببلاد الفرس بنات اوى، فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان، فشق عليه ذلك وأحضر موبذان موبذ وقال له: قد بلغنا تساقط هذه السباح إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك، فأخبرنا برأيك فيها. فقال: سمعت فقهاءنا يقولون: متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل جار أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون. فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتياناً من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعملوا في شيء منها إلا به، ففعلوا ما أمرهم، فصرف الله ذلك العدو عنهم من غير حرب.
● [ ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان ] ●
كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروح وبعضها للخزر، فبنى قباذ سوراً مما يلي بعض تلك الناحية، فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوي أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بنى مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب، وإنما سميت أبواباً لأنها بنيت على طريق في الجبل، وأسكن المدن قوماً سماهم السياسجين، وبنى غير هذه المدن، وبنى لكل باب قصراً من حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس، وبنى باب اللان، وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية، وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون، وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته، ورغب في صهره، وتزوج كل واحد بابنة الآخر.
فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتاً كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته، وأرسل ملك الترك ابنته، واجتمعا، فأمر أنوشروان جماعةً من ثقاته أن يكبسوا طرفاً من عسكر الترك ويحرقوا فيه، ففعلوا، فلما أصبحوا شكا ملك الترك ذلك، فأنكر أن يكون له علم به، ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال، فضج التركي، فرفق به أنوشروان، فاعتذر إليه، ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش، فلما اصبح شكا إلى التركي، قال: كافأتني بالتهمة ! فحلف التركي أنه لم يعلم بشيء من ذلك، فقال أنوشروان له: إن جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات، ولا أمن أن يحدثوا حدثاً يفسد قلوبنا فنعود إلى العدواة، والرأي أن تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبواباً فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده. فأجابه إلى ذلك.
وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال، وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه. فقيل لملك الترك: إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة.
وملك أنوشروان ملوكاً رتبهم على النواحي، فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها، ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر الإسلام، فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم
● [ ذكر أمر الفيل ] ●
لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب.
فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة، وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.
فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وخرج معه بالفيل واسمه محمود، وقيل: كان معه ثلاثة عشر فيلاً وهي تتبع محموداً، وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه عنى كبيرها محموداً، وقيل في عددهم غير ذلك.
فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر وقاتله، فهزم ذو نفر وأخذ أسيراً فأراد قتله ثم تركه محبوساً عنده، ثم مضى على وجهه، فخرج عليه نفيل ابن حبيب الجثعمي فقاتله، فانهزم نفيل وأخذ أسيراً، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف أبا رغالٍ يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس، فلما نزله مات أبو رغالٍ، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم.
وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة، فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم.
فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وإن يخل بيته وبينه فوالله ما عندنا من دفع، فقال له: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقاً، فدل عليه، وهو في محبسه، فقال له: هل عندك غناء فيما نزل بنا ، فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله ، ولكن أنيس سائس الفيل صديق لي فأوصيه بك وأعظم حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ويشفع لك عنده إن قدر. قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فحضره وأوصاه بعبد المطلب وأعلمه أنه سيد قريش. فكلم أنيس أبرهة وقال: هذا سيد قريش يستأذن، فأذن له.
وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا ربّ لا أرجو لهم سـواكا ● يا ربّ فامنع منهم حماكا
إنّ عدوّ البيت من عـاداكـا ● إمنـعـهم أن يخربوا فناكا
وقال أيضاً:
لا همّ إنّ العبد يم ● نع رحله فامنع حلالـك
لا يغلبنّ صليبهم ● ومحالـهم غدراً محالك
ولـئن فعلت فإنّه ● أمـرٌ تـتــمّ بـــه فـعالك
أنت الذي إن جاء با ● غٍ نرتجيك له كذلك
ولّوا ولم يحووا سـوى ● خزيٍ وتهلكهم هنالك
لم أستمع يوماً بأر ● جس منهم يبغـوا قـتـالـك
جرّوا جموع بلادهم ● والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ● جهلاً وما رقبوا جلالـك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وكان اسمه محموداً، وأبرهة مجمعٌ لهدم البيت والعود إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود، ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفير حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطّالب ● والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال أيضاً:
ألا حيّيت عنّا يا ردينا ● نعمناكم مع الإصباح عـينا
أتـانـا قـابسٌ منكم عـشاء ● فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولم تريه ● لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعـذرتني وحمدت رأيي ● ولم تأسي لما قد فات بـينا
حمدت الله إذ عاينت طيراً ● وخفت حجارةً تلقى علينا
وكـلّ الـقـوم يسـأل عن نفيلٍ ● كأنّ عليّ للحبشان دينا
وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، وذلت حمير واليمن له، ونكحت الحبشة نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب.
ولما أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حساً، فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكى، فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما ذهباً وجوهراً له ولأبي مسعود ونادى في الناس، فتراجعوا، فأصابوا من فضلهما شيئاً كثيراً، فبقي عبد المطلب في غنىً من ذلك المال حتى مات.
ويبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر وقال كثير من أهل السير إن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل وكذلك قالوا إن العشر والحرمل والشجر لم تعرف بأرض العرب إلا بعد الفيل. وهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه فإن هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق الله العالم. ولما رد الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق.
● [ ذكر عود اليمن إلى حمير وإخراج الحبشة عنه ] ●
لما هلك يكسوم ملك اليمن أخوه مسروق بن أبرهة، وهو الذي قتله وهرز، فلما تشد البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن، وكنيته أبو مرة، وقيل: كنية ذي يزن أبو مرة، حتى قدم على قيصر، وتنكب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فإنه كان قصد كسرى أنوشروان لما أخذت زوجته يستنصره على الحبشة، فوعده، فأقام ذو يزن عنده، فمات على بابه. وكان ابنه سيف مع أمه في حجر أبرهة، وهو يحسب أنه ابنه، فسبه ولد لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه فأعلمته خبره بعد مراجعة بينهما، فأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم، ثم سار إلى الروم فلم يجد عند ملكهم ما يحب لموافقته الحبشة في الدين، فعاد إلى كسرى، فاعترضه يوماً وقد ركب فقال له: إن لي عندك ميراثاً، فدعا به كسرى لما نزل فقال له: من أنت وما ميراثك ، قال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصرة فمات ببابك، فتلك العدة حق لي وميراث. فرق كسرى له وقال له: بعدت بلادك عنا وقل خيرها والمسلك إليها وعرٌ ولست أغرر بجيشي. وأمر له بمال، فخرج وجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس، فسمع كسرى فسأله ما حمله على ذلك، فقال: لم آتك للمال وإنما جئتك للرجال ولتمنعني من الذل والهوان، وإن جبال بلادنا ذهب وفضة.
فأعجب كسرى بقوله وقال: يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني؛ واستشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له موبذان موبذ: أيها الملك إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه إليك وموت أبيه ببابك وما تقدم من عدته بالنصرة، وفي سجونك رجال ذوو نجدة وبأس فلو أن الملك وجههم معه فإن أصابوا ظفراً كان للملك، وإن هلكوا فقد استراح وأراح أهل مملكته منهم. فقال كسرى: هذا الرأي.
فأمر كسرى بمن في السجون، فأحضروا، فكانوا ثمانمائة، فقود عليهم قائداً من أساورته يقال له وهرز، وقيل: بل كان من أهل السجون سخط عليه كسرى لحدث فحبسه، وكان يعدله بألف أسوار، وأمر بحملهم في ثماني سفن، فركبوا البحر، فغرق سفينتان وخرجوا بساحل حضرموت، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، وجعل وهرز البحر وراء ظهره وأحرق السفن لئلا يطمع أصحابه في النجاة، وأحرق كل ما معهم من زاد وكسوة إلا ما أكلوا وما على أبدانهم، وقال لأصحابه: إنما أحرقت ذلك لئلا يأخذه الحبشة إن ظفروا بكم، وإن نحن ظفرنا بهم فسنأخذ أضعافه، فإن كنتم تقاتلون معي وتصبروني أعلمتموني ذلك، وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فانظروا ما حالكم إذا فعل رئيسكم هذا بنفسه. قالوا: بل نقاتل معك حتى نموت أو نظفر. وقال لسيف بن ذي يزن: ما عندك ، قال: ما شئت من رجل عربي وسيف عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر جميعاً. قال: أنصفت.
فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، فكان أول من لحقه السكاسك من كندة. وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده، فعبأ وهرز أصحابه وأمرهم أن يوتروا قسيهم، وقال: إذا أمرتكم بالرمي فارموا رشقاً.
وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه، وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى دون الظفر شيئاً. وكان وهرز كل بصره، فقال: أروني عظيمهم. فقالوا: هذا صاحب الفيل، ثم ركب فرساً، فقالوا: ركب فرساً، ثم انتقل إلى بلغة، فقالوا: ركب بغلة. فقال وهرز: ذل وذل ملكه ، وقال وهرز: ارفعوا لي حاجبي، وكانا قد سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما له بعصابة، ثم جعل نشابة في كبد قوسه وقال: أشيروا إلى مسروق، فأشاروا إليه، فقال لهم: سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفاً لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوؤذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتموهم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبته فاحملوا عليهم. ثم رماه فأصاب السهم بين عينيه، ورمى أصحابه، فقتل مسروق وجماعة من اصحابه، فاستدارت الحبشة بمسروق وقد سقط عن دابته، وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء، وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يحد ولا يحصى.
وقال وهرز: كفوا عن العرب واقتلوا السودان ولا تبقوا منهم أحداً. وهرب رجل من الأعراب يوماً وليلة ثم التفت فرأى في جعبته نشابة فقال: لأمك الويل ! أبعدٌ أم طول مسير ! وسار وهرز حتى دخل صنعاء وغلب على بلاد اليمن وأرسل عماله في المخاليف.
وكان مدة ملك الحبشة اليمن اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة، وقيل: كان ملكهم نحواً من مائتي سنة، وقيل غير ذلك، والأول أصح.
فلما ملك وهرز اليمن أرسل إلى كسرى يعلمه بذلك وبعث إليه بأموال، وكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن، وبعضهم يقول معدي كرب بن سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض عليه كسرى جزية وخراجاً معلوماً في كل عام، فملكه وهرز وانصرف إلى كسرى وأقام سيف على اليمن ملكاً يقتل الحبشة ويبقر بطون الحبال عن الحمل، ولم يترك منهم إلا القليل جعلهم خولاً فاتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بالحراب، فمكث غير كثير، ثم إنه خرج يوماً والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه بالحراب حتى قتلوه، فكان ملكه خمس عشرة سنة، ووثب بهم رجل من الحبشة فقتل باليمن وأفسد، فلما بلغ ذاك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيراً أو كبيراً، ولا يدع رجلاً جعداً قططاً قد شرك فيه السودان إلا قتله، وأقبل حتى دخل اليمن ففعل ما أمره، وكتب إلى كسرى يخبره، فأقره على ملك اليمن، فكان يجيبها لكسرى حتى هلك، وأمر بعده كسرى ابنه المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر بعده كسرى التينجان بن المرزبان، ثم أمر بعده خر خسرة بن التينجان بن المرزبان.
ثم إن كسرى أبرويز غضب عليه فأحضره من اليمن، فلما قدم تلقاه رجل من عظماء الفرس فألقى عليه سيفاً كان لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل وعزله عن اليمن، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل ليها حتى بعث الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن أنوشروان استعمل بعد وهرز زرين، وكان مسرفاً، إذا أراد أن يركب قتل قتيلاً ثم سار بين أصواله، فمات أنوشروان وهو على اليمن، فعزله ابنه هرمز. وقد اختلفوا في ولاة اليمن للأكسارة اختلافاً كثيراً لم أر لذكره فائدة.
● [ ذكر ما أحدثته قريش بعد الفيل ] ●
لما كان من أمر أصحاب الفيل ما ذكرناه عظمت قريش عند العرب فقالوا: لهم أهل الله وقطنه يحامي عنهم، فاجتمعت قريش بينها وقالوا: نحن بنو إبراهيم، عليه السلام، وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا، فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئاً من الحل كما يعظم الحرم، فإننا إذا فعلنا ذلك استخفت العرب بنا وبحرمنا وقالوا: قد عظمت قريش من الحل مثل ما عظمت من الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويروى سائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، وقالوا: نحن أهل الحرم فلا نعظم غيره، ونحن الحمس، وأصل الحماسة الشدة أنهم تشددوا في دينهم وجعلوا لمن ولد واحدة من نسائهم من العرب ساكني الحل مثل ما لهم بولادتهم، ودخل معهم في ذلك كنانة وخزاعة وعامر لولادة لهم، ثم ابتدعوا فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط ولا يسلأوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماً. وقالوا: ولا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاؤوا حجاجاً أو عماراً. ولا يطوفون بالبيت طوافهم إذا قدموا إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن أنف أحد من عظمائهم أن يطوف عرياناً إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ من الطواف ولا يمسها هو، ولا أحد غيره، وكانوا يسمونها اللقى. فدانت العرب لهم بذلك، فكانوا يطوفون كما شرعوا لهم ويتركون أزوادهم التي جاؤوا بها من الحل ويشترون من طعام الحرم ويأكلونه. هذا في الرجال، وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجاً ثم تطوف فيه وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ● وما بدا منه فـلا أحلّه
فكانوا كذلك حتى بعث الله محمّداً، صلى الله عليه وسلم، فنسخه، فأفاض من عرفاتٍ، وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل، وأكلوا من طعام الحل، في الحرم أيام الحج، وأنزل الله تعالى في ذلك: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إنّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة: 199؛ أراد بالناس العرب، أمر قريشاً أن يفيضوا من عرفات، وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم: (يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)، إلى قوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
● [ ذكر حلف المطيبين والأحلاف ] ●
قد ذكرنا ما كان قصي أعطى ولده عبد الدار من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، ثم إن هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفلاً بني عبد مناف ابن قصي رأوا أنهم أحق بذلك من بني عبد الدار لشرفهم عليهم ولفضلهم في قومهم، وأرادوا أخذ ذلك منهم، فتفرقت عند ذلك قريش، كانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار يرون أنه لا يجوز أن يؤخذ منهم ما كان قصي جعله لهم إذ كان أمر قصي فيهم شرعاً متبعاً معرفة منهم لفضله تيمناً بأمره، وكان صاحب أمر بني عبد مناف بن قصي عبد شمس لأنه كان أكبرهم، وكان صاحب بني عبد الدار الذي قام في المنع عنهم عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، فاجتمع بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ابن النضر مع بني عبد مناف، واجتمع بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب ابن فهر من ذلك، فلم يكونوا مع أحد الفريقين، وعقد كل طائفة بينهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً ما بل بحرٌ صوفةً، فأخرجت بنو عبد مناف بن قصي جفنة مملوءة طيباً، قيل: إن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها في المسجد وغمسوا أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسموا بذلك المطيبين.
وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم من القبائل عند الكعبة على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً فسموا لأحلاف، ثم تصافوا للقتال وأجمعوا على الحرب، فبينما هم على ذلك إذ تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فاصطلحوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الإسلام وهم على ذلك، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدةً ولا حلف في الإسلام.
فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان كثير الأسفار قليل المال كثير العيال، وكان هاشم موسراً جواداً.
وكان ينبغي أن نذكر هذا قبل الفيل وما أحدثه قريش، وإنما أخرناه للزوم تلك حوادث بعضها ببعض.
● [ ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجند ] ●
كان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع، وكذلك الخمس والسدس على قدر شربها وعمارتها، ومن الجزية شيئاً معلوماً، فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها، فمات قبل الفراغ من ذلك، فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير ون والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئاً معلوماً، ويؤخذ في السنة في ثلاثة أنجم، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب، وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة عليه، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته، وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك كل إنسان على قدره من اثني عشر درهماً وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم، وأسقطها عمر عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة.
ثم إن كسرى ولى رجلاً من الكتاب من الكفاة والنبلاء اسمه بابك عرض جيشه، فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك، فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها، ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض، فحضروا، فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف، فعل ذلك يومين، ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يتخلف أحد ولا من أكرم بتاج، فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح، ثم أتى بابك ليعرض عليه، فرأى سلاحه تاماً ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا بهما، فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له: هلم كل ما يلزمك. فذكر كسرى الوترين فتعلقهما، ثم نادى منادي بابك وقال: للكمي السيد، سيد الكماة، أربعة آلاف درهم، وأجاز على اسمه. فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه، وذكر له أن أمره لا يتم إلا بما فعل. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ نريد به إصلاح دولتنا.
ومن كلام كسرى: الشكر والنعمة كفتان ككفتي الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه، فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلاً انقطع الحمد، فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر، وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته، ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل، ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السموات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية، وهو الحق والعدل، فلزمته، ورأيت ثمرة لحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات. ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة، فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفرهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤونتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من الجانبين، ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى.
ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئاً يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه، ولا فساداً إلا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآبا. ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وكتبنا بذلك إلى جميع أصحابنا ونوابنا في سائر البلدان. فانظر إلى هذا الكلام الذي يدل على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس، ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة. وكان لكسرى أولاد متأدبون، فجعل الملك من بعده لابنه هرمز. وكان مولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عام الفيل، وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه، وفي هذا العام كان يوم ذي جبلة، وهو يوم من أيام العرب المذكورة.
مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
منتدى نافذة ثقافية - البوابة