من طرف صبايا الأحد مايو 16, 2021 12:48 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة العلمية
المناظر لابن الهيثم
المقالة الثانية
تفصيل المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها
تابع الفصل الثالث
● [ ما تبقى من كيفية إدراك المعاني الجزئية ] ●
ومائية الضوء أيضاً إنما يدركها البصر بالمعرفة. فإن البصر يعرف ضوء الشمس ويفرق بينه وبين ضوء القمر وبين ضوء النار. وكذلك يعرف ضوء القمر ويعرف ضوء النار. فإدراك البصر لمائية كل واحد من هذه الأضواء إنما هو بالمعرفة.
وكيفية الضوء في القوة والضعف يدركها البصر بالتمييز والقياس ومن قياس صورة الضوء الذي يدركه في الحال بما تقدم من إدراكه له من صور الأضواء.
فالذي يدركه البصر بمجرد الحس هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون. ثم جميع ما يدرك بحاسة البصر من بعد الضوء واللون ليس يدرك بمجرد الحس بل يدرك بالتمييز والقياس والمعرفة مع الحس، لن جميع ما يدرك بالتمييز والقياس من المعاني المبصرة إنما يدرك من تمييز المعاني التي في الصورة المحسوسة. وكذلك ما يدرك بالمعرفة ليس يدرك إلا من إدراك الأمارات التي في الصورة المحسوسة. فالمعاني التي تدرك بالتمييز والقياس والمعرفة من المعاني المبصرة إنما تدرك مع الإحساس بالصورة. والضوء الذي في الجسم المضيء من ذاته يدركه البصر على ما هو عليه وعلى انفراده من نفس الإحساس، والضوء واللون اللذان في الجسم المتلون المضيء بضوء عرضي يدركهما البصر معاً وممتزجتين ويدركهما بمجرد الإحساس. فالضوء الذاتي يدركه الحاس من إضاءة الجسم الحاس، واللون يدركه الحاس من تغير صورة الجسم الحاس وتلونه مع إدراكه لإضاءة الجسم الحاس بالضوء العرضي الممازج لذلك اللون . فالحاس يدرك من الجسم الحاس عند حصول صورة اللون فيه ضوءاً متلوناً، ويدركه عند حصول صورة الضوء الذاتي فيه ضوءاً مجرداً. وهذان المعنيان فقط هما اللذان يدركهما البصر بمجرد الإحساس.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك اللون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، أعني أن البصر يدرك اللون ويحس أنه لون ويعلم الناظر إليه أنه لون قبل أن يحس أي لون هو. وذلك انه في حال حصول الصورة في البصر قد تلون البصر ، فإذا تلون البصر أحس أنه متلون، وإذا أحس بأنه متلون فقد أحس باللون. ثم من تمييز اللون وقياسه بالألوان التي قد عرفها البصر يدرك مائية اللون، فيكون إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائية اللون، ويكون إدراك مائية اللون بالمعرفة. والذي يدل على أن ابصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو، هو المبصرات التي ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمسني وما أشبه ذلك إذ كانت في موضع مغدر ولم يكن الموضع شديد الغدرة. فإن البصر إذا أدرك اللون من هذه الألوان في الموضع المغدر فإنما يدركه لوناً مظلماً فقط ويحس أنه لون ولا يتميز له أي لون هو في أول إدراكه. فإذا كان الموضع ليس بشديد الغدرة فإن البصر إذا تأمل ذلك اللون فضل تأمل أدرك أي لون هو. وإن قوي الضوء في ذلك الموضع تميز للبصر أي لون هو ذلك اللون. فيتبين من هذا الاعتبار أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو.
والذي يدركه البصر من اللون في أول حصوله في البصر هو التلون. والتلون هو ظلمة ما، أو كالظل إذا كان اللون رقيقاً. فإن كان المبصر ذا ألوان مختلفة فإن أول ما يدرك البصر من صورته هو ظلمة أجزاؤها مختلفة الكيفية في القوة والضعف، وكالأظلال المختلفة في القوة والضعف. فأول ما يدركه البصر من صورة اللون هو تغير العضو الحاس وتلونه الذي هو ظلمة أو ما يجري مجرى الظلمة. ثم يميز الحاس ذلك التلون، فإذا كان المبصر مضيئاً تميز للبصر ذلك اللون وأدرك أمثالها دائماً فإنه يدرك مائيته في أقل القليل من الزمان وفي الآن الثاني الذي ليس بينه وبين الآن الأول الذي أدرك فيه اللون بما هو لون زمان محسوس. وإن كان من الألوان المشتبهة التي لم يدرك البصر أمثالها من قبل إلا يسيراً، أو كان في موضع مغدر ضعيف الضوء، فليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان محسوس. وإن كان المبصر مظلماً وليس فيه إلا ضوء يسير، كالذي يدرك في الليل وفي الغلس وفي المواضع المغدرة الشديدة الغدرة، فإن الحاس إذا ميز اللون الذي يدركه في هذه المواضع لم يتميز له ولم يحصل له منه إلا ظلمة فقط. فيتبين من إدراك الألوان في المواضع المغدرة أن إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائيته، ويخفى أن إدراك مائية اللون يكون بعد التمييز ومن بعد إدراك الألوان المشرقة المألوفة في المواضع المضيئة.
ومما يدل أيضاً على أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو الألوان الغريبة. فأن البصر إذا أدرك لوناً غريباً لم ير مثله من قبل، فإنه يدرك انه لون ومع ذلك لا يعلم أي لون هو، وإذا تأمله فضل تأمل شبهه بأقرب الألوان التي يعرفها شبهاً به.
فمن الاعتبار بأمثال المبصرات التي وصفناها يتبين بياناً واضحاً أن إدراك البصر للون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، ويتبين أيضاً من هذه الاعتبارات أن إدراك مائية اللون إنما يكون بالتمييز وتشبيه اللون بما قد عرفه البصر من الألوان. وإذا كان ذلك كذلك فمائية اللون ليس تدرك إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. وكذلك الضوء ليس تدرك مائيته وليس تدرك كيفيته في القوة والضعف إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. فالذي يدركه البصر بمجرد الحس إنما هو اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء فقط، وما سوى ذلك ليس يدرك بمجرد الحسن وليس يدرك ما سوى هذين المعنيين إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. والضوء واللون المضيء هو أول ما يدركه البصر من الصورة، ثم ما سوى ذلك يدرك من بعد إدراك اللون المضيء أو الضوء المجرد.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك مائية اللون ليست تكون إلا في زمان. وذلك أن إدراك مائية اللون ليس تكون إلا بالتمييز والتشبيه، والتمييز ليس يكون إلا في زمان، فإدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان. والذي يدل دليلاً ظاهراً يشهد به الحس على أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان ما يظهر في الدوامة عند حركتها. فإن الدوامة إذا كان فيها أصباغ مختلفة، وكانت تلك الأصباغ خطوطاً ممتدة من وسط سطحها الظاهر وما يلي عنقها إلى نهاية محيطها، ثم أديرت الدوامة بحركة شديدة فإنها تتحرك على الاستدارة حركة في غاية السرعة.
وفي حال حركتها إذا تأملها الناظر فإنه يدرك لوناً واحداً مخالفاً لجميع الألوان التي فيها كأنه مركب من جميع ألوان تلك الخطوط، ولا يدرك تخطيطها ولا اختلاف ألوانها، ويدرك مع ذلك كأنها ساكنة إذا كانت حركتها شديدة السرعة. وإذا كانت الدوامة تتحرك حركة سريعة فإن كل نقطة منها ليس تثبت في موضع واحد زماناً محسوساً وهي تقطع في أقل القليل من الزمان جميع الدائرة التي تدور عليها، فتحصل صورة النقطة في البصر على محيط دائرة في البصر في أقل القليل من الزمان. فالبصر إنما يدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان من جميع محيط الدائرة التي تحصل في البصر، فيدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان مستديراً. وكذلك جميع النقط التي في سطح الدوامة يدرك البصر لون كل واحد منها على جميع محيط الدائرة التي تتحرك عليها تلك النقطة في أقل القليل من الزمان. وجميع النقط التي أبعادها من المركز متساوية تتحرك عند استدارة الدوامة على محيط دائرة واحدة. فيعرض من ذلك أن يظهر لون كل نقطة من النقط التي أبعادها من المركز متساوية على محيط دائرة واحدة بعينها في أقل القليل من الزمان الذي هو زمان الدورة وهو زمان واحد بعينه، فتظهر ألوان جميع تلك النقط في جميع محيط تلك الدائرة ممتزجة ولا تتميز للبصر، وكذلك يدرك لون سطح الدوامة لوناً واحداً ممتزجاً من جميع الألوان التي في سطحها.
فلو كان البصر يدرك مائية اللون في آن واحد في كل آن من الآنات التي في الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة لأدرك مائيات جميع الألوان التي في الدوامة متميزة في حال حركتها. لأنه إذا كان لا يحتاج في إدراك مائيتها إلى زمان فإنه يدرك مائياتها وهي متحركة في جزء من زمان الدورة كما يدرك مائياتها وهي ساكنة، لأن مائيات جميع ألوان المبصرات المألوفة في حال سكونها وفي حال حركتها هي واحدة لا تتغير. ففي كل آن من الآنات التي يتحرك فيها المبصر يكون لونه واحداً لا يتغير، وتكون مائيات ألوان المبصرات في الآن الواحد وفي الزمان الممتد واحدة لا تتغير، وإذا لم يكن الزمان متفاوت الطول. فإذا كان البصر ليس يدرك الألوان التي تكون في سطح الدوامة إذا كانت الدوامة متحركة حركة سريعة، وهو يدركها إذا كانت الدوامة ساكنة وإذا كانت متحركة حركة بطيئة، فالبصر إذن ليس يدرك مائية اللون غلا إذا كان اللون ثابتاً في موضع واحد زماناً محسوساً، أو كان متحركاً في زمان محسوس مسافةً لا يؤثر مقدارها في وضع ذلك اللون من البصر تأثيراً متفاوتاً.
فيتبين من هذه الحال أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان، ويتبين من هذه الحال أن إدراك مائيات جميع المبصرات ليس يكون إلا في زمان، لأنه إذا كان اللون الذي يدرك بمجرد الحس ليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان فما سوى ذلك من صور المبصرات ومن المعاني المبصرة التي تدرك بالتمييز والقياس أشد حاجة إلى الزمان، فإدراك مائيات المبصرات والإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز والقياس ليس يكون إلا في زمان، إلا أنه قد يكون ذلك في أكثر الأحوال في زمان يسير المقدار وفي زمان لا يظهر للناظر ظهوراً بيناً.
وأيضاً فإنا نقول إن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركه البصر إلا في زمان، اعني أن الآن الذي عنده يقع إدراك اللون بما هو لون أو إدراك الضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس فيه سطح البصر الهواء الحامل للصورة. وذلك أن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركهما الحاس إلا بعد حصول الصورة في الجسم الحاس، وليس يدركهما الحاس الأخير غلا بعد وصول الصورة إلى تجويف العصبة المشتركة. ووصول الصورة إلى العصبة المشتركة إنما هو كوصول الضوء من المنافذ والثقوب التي يدخل منها الضوء إلى الأجسام المقابلة لتلك المنافذ وتلك الثقوب إذا كان الثقب مستتراً ثم رفع الساتر. ووصل الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يكون إلا في زمان وإن كان خفياً عن الحس. لأن وصول الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الضوء يحصل في الجزء من الهواء الذي يلي الثقب قبل أن يحصل في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يلي ذلك الجزء من الهواء إلى أن يصل إلى الجسم المقابل للثقب وعلى الجسم نفسه المقابل للثقب دفعة واحدة، ويكون جميع الهواء يقبل الضوء دفعة لا جزءاً منه بعد جزء. فإن كان الهواء يقبل الضوء جزءاً بعد جزء فالضوء إنما يصل إلى الجسم المقابل للثقب بحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان. وإن كان الهواء يقبل الضوء دفعة واحدة، فإن حصول الضوء في الهواء بعد أن لم يكن فيه ضوء ليس يكون أيضاً إلا في زمان وإن خفي عن الحس. وذلك الثقب الذي يدخل منه الضوء إذا كان مستتراً، ثم رفع الساتر الذي في وجهه، فإن الآن الذي يزول فيه الساتر عن أول جزء من الثقب ويصير فيه الهواء الذي في الثقب منكشفاً لجزء من الضوء هو غير الآن الذي يحصل عنده الضوء في الهواء المماس لذلك الجزء من داخل الثقب وفي الهواء المتصل بذلك الهواء من داخل الثقب على تصاريف الأحوال. لأنه ليس يحصل الضوء في شيء من الهواء الذي في داخل الثقب المستتر عن الضوء إلا بعد أن ينكشف شيء من الثقب للضوء، وليس ينكشف شيء من الثقب في اقل من آن واحد ، والآن ليس ينقسم، فليس يحصل شيء من الضوء في ذلك الثقب في الآن الذي انكشف فيه ما انكشف من الثقب، لأن الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد ليس ينكشف جزءاً بعد جزء، وليس يكون الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد جزءاً له قدر، وإنما ينكشف منه في الآن الواحد نقطة لا مساحة لها أو خط لا عرض له، لأن ما له عرض وطول ليس ينكشف عنه الساتر إلا جزءاً بعد جزء وليس يكون انكشاف ما له عرض من الثقب إلا بالحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان، فالذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد الذي لا ينقسم هو شيء لا عرض له، فليس ينكشف ذلك الشيء جزءاً بعد جزء. وإذا كان ذلك كذلك فإن الذي ينكشف من الثقب في الآن الذي لا ينقسم هو نقطة لا مساحة لها. والخط الذي لا عرض له ليس هو جزءاً من الهواء، لأن أصغر الصغير من أجزاء الهواء ليس يكون إلا جسماً. فالنقطة التي لا مساحة لها أو الخط الذي لا عرض له هو أول شيء ينكشف من الثقب الذي ينكشف في الآن الذي لا ينقسم إنما هو نهاية جزء من أجزاء الهواء الذي في داخل الثقب لا جزء من الهواء. والنقطة التي لا مساحة لها لا تقبل الضوء، وكذلك الخط الذي لا عرض له، وليس يقبل الضوء إلا الأجسام. فإذا كانت النقطة التي لا مساحة لها والخط الذي لا عرض له لا يقبلان الضوء، فليس يحصل شيء من الضوء في الهواء الذي في داخل الثقب في الآن الذي ينكشف فيه أول شيء ينكشف من الثقب. فلآن إذن الذي هو أول آن تحصل عند الصورة في الهواء الذي في داخل الثقب أو في جزء منه غير الآن الذي انكشف فيه أول شيء انكشف من الثقب. وكل أنين فبينهما زمان، فليس يصير الضوء من الهواء الذي في خارج الثقب إلى الهواء الذي في داخل الثقب إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان خفي عن الحس جداً لسرعة قبول الهواء لصور الأضواء.
وكذلك إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، وماساً الهواء الحامل لصورة المبصر سطح البصر بعد أن لم يكن شيء من ذلك الهواء مماساً له، فإن الصورة ليس تصير من الهواء الحامل للصورة إلى داخل تجويف العصبة المشتركة إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان ليس للحس طريق إلى إدراكه ولا اعتباره لصغره وغلظ الحس وقصور قوته عن إدراك ما هو في غاية الصغر. فهذا الزمان بالقياس إلى الحس بمنزلة الآن بالقياس إلى التمييز.
وأيضاً فإن العضو الحاس ليس يحس بالصور التي ترد إليه من المبصرات إلا بعد أن ينفعل بالصور، فليس يحس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء إلا بعد أن ينفعل بصورة اللون وبصورة الضوء. وانفعال العضو الحاس بصورة اللون وبصورة الضوء هو تغير ما، وليس يكون التغير إلا في زمان، فليس يدرك البصر اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان ، وفي الزمان الذي تمتد فيه الصور من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة وفي ما يليه يكون إدراك القوة الحساسة التي في جميع الجسم الحاس للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء، لأن القوة الباصرة إنما هي في هذه المسافة وهي في جميع هذه المسافة. وعند حصول الصورة في تجويف العصبة المشتركة يكون إدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء. فإدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء يكون في الزمان الذي يلي الزمان الذي فيه تصل الصورة من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة.
وأيضاً فإن الآن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن يماس فيه الهواء الحامل للصورة أول نقطة يماسها من سطح البصر، إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو بعد فتح البصر أجفانه وهو مقابل للبصر بعد أن كانت أجفانه مطبقة. لأن البصر إذا قابل المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، أو فتح أجفانه بعد أن كانت مطبقة، فإن أول ما يماس سطح البصر من الهواء الحامل لصورة ذلك المبصر هو نقطة واحدة أو خط لا عرض له، ثم جزءاً من بعد جزء إلى أن يصير الهواء الحامل للصورة مماساً لجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة. وفي حالة مماسة النقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح البصر للنقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح الهواء الحامل للصورة ليس يحصل شيء من صورة الضوء واللون في سطح البصر. لأن أقل القليل من السطح الذي يحصل فيه ضوء أو صورة لون ليس يكون إلا سطحاً. فالآن الذي يماس فيه نقطة من سطح البصر أول نقطة يماسها من الهواء الحامل للصورة ليس يحصل فيه شيء من الصورة في سطح البصر. والآن إذن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل للصورة سطح البصر إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو فتح أجفانه بعد أن كانت أجفانه مغلقة.
وإذا كان ذلك كذلك فليس تحصل صورة اللون ولا الضوء في شيء من العضو الحاس ولا في سطح البصر إلا في زمان، وليس يدرك الحاس شيء من اللون ولا الضوء ما لم تحصل صورة اللون والضوء في شيء من العضو الحاس، فليس يدرك الحاس اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان، أعني أن الآن الذي يقع عنده الإحساس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل لصورة سطح البصر.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا كيف يدرك البصر الضوء بما هو ضوء، وكيف يدرك اللون بما هو لون، وكيف يدرك مائية اللون، وكيف يدرك مائية الضوء، وكيف يدرك كيفية الضوء.
● [ إدراك البعد ] ●
فأما البعد، فهو بعد المبصر عن البصر فإن البصر ليس يدركه بمجرد الإحساس. وليس إدراك بعد المبصر هو إدراك موضع المبصر، ولا إدراك المبصر في موضعه من إدراك بعده فقط، ولا إدراك موضع المبصر من إدراك بعده فقط. وذلك أن موضع البصر يتقوم من ثلاث معان: من البعد ومن الجهة ومن كمية البعد.
وكمية البعد غير معنى البعد بما هو بعد، لأن معنى البعد بين الجسمين هو عدم التماس، وعدم التماس هو حصول مسافة ما بين الجسمين المتباعد أحدهما عن الآخر. وكمية البعد هو كمية تلك المسافة. فمعنى البعد بما هو بعد هو من قبيل الوضع، فهو غير كمية البعد. فإدراك معنى البعد الذي هو عدم التماس هو غير إدراك كمية المسافة التي هي مقدار البعد، وكيفية إدراك الكل واحدة من هذين المعنيين هو غير كيفية إدراك المعنى الآخر.
إدراك الوضع وإدراك كمية البعد هو من إدراك العظم، وإدراك بعد المبصر وإدراك جهته هما جميعاً من إدراك الوضع، وكيفية إدراك كل واحد منهما هو غير كيفية إدراك الآخر. لأن عدم التماس هو غير الجهة، فليس إدراك موضع المبصر هو إدراك بعد المبصر.
وإدراك المبصر في موضعه يتقوم من إدراك خمسة معان: من إدراك الضوء الذي فيه، وإدراك لونه، وإدراك بعده، وإدراك جهته، وإدراك كمية بعده. وليس يدرك كل واحد من هذه المعاني منفرداً، ولا تدرك هذه المعاني واحداً بعد واحد، بل يدرك جميعها معاً، لأنها تدرك بالمعرفة لا باستئناف التمييز والقياس. فليس ينفرد البعد بإدراك يكون في حالة الإحساس.
ومن إدراك المبصر في موضعه اعتقد أصحاب الشعاع أن الإبصار يكون بشعاع يخرج من البصر وينتهي إلى المبصر، وأن الإبصار يكون بأطراف الشعاع. واحتج هؤلاء على أصحاب العلم الطبيعي بأن قالوا: إذا كان الإبصار بصورة ترد من المبصر إلى البصر، وكانت الصورة تحصل في داخل البصر، فلم يدرك المبصر في موضعه الذي هو خارج البصر وصورته قد حصلت في داخل البصر? وذهب على هؤلاء أن الإبصار ليس يتم بمجرد الإحساس فقط، وأن الإبصار ليس يتم إلا بالتمييز وبتقدم المعرفة، وأنه لولا التمييز وتقدم المعرفة لم يتم للبصر شيء من الإبصار ولا أدركت مائية المبصر في حال إبصاره. لأن ما هو المبصر ليس يدرك بمجرد الحس، وليس يدرك ما هو المبصر إلا بالمعرفة أو باستئناف التمييز والقياس في حال الإبصار. فلو كان الإبصار إنما هو بمجرد الإحساس فقط، وكان جميع ما يدرك من المعاني التي في المبصرات ليس يدرك إلا بمجرد الإحساس، لما كان يدرك المبصر في موضعه غلا بعد أن يصل إليه شيء يلامسه ويحس به. فأما إذا كان الإبصار ليس يتم بمجرد الإحساس، وليس جميع المعاني التي تدرك من المبصرات تدرك بمجرد الإحساس ، وليس يتم الإبصار إلا بالتمييز والقياس والمعرفة، وكان كثيراً من المعاني المبصرة ليس يدرك إلا بالتمييز، فليس يحتاج في إدراك المبصر في موضعه إلى حاس يمتد إليه ويلامسه.
فلنرجع الآن إلى نعت كيفية إدراك البعد، فنقول: إن بعد المبصر إنما يدرك منفرداً بالتمييز. ومع ذلك فإن هذا المعنى من المعاني التي استقرت في النفس على مر الزمان من حيث لم تحس باستقراره لاستمرار هذا المعنى وتكرره على القوة المميزة. فليس تحتاج في إدراكه إلى استئناف تمييز وقياس عند إدراك كل مبصر. ولا تبحث القوة المميزة أيضاً عند إدراك كل مبصر كيف استقر معنى البعد عندها، لأنها ليس تميز كيفية الإدراك عند إدراك كل مبصر. ولا تبحث القوة المميزة أيضاً عند إدراك كل مبصر كيف استقر معنى البعد عندها، لأنها ليس تميز كيفية الإدراك عند إدراك كل مبصر. فهي إنما تدرك البعد مع غيره من المعاني التي في المبصر، وتدرك ذلك في حال إدراك المبصر بتقدم المعرفة.
فأما كيف إدراك القوة المميزة للبعد بالتمييز، فإن البصر إذا قابل المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أدرك المبصر، وإذا أعرض البصر عن ذلك المبصر والتفت عنه بطل ذلك الإدراك. وكذلك إذا فتح البصر أجفانه بعد أن كانت مطبقة، وكان مقابلاً له مبصر من المبصرات، أدرك البصر ذلك المبصر، وإذا أطبق أجفانه من بعد إدراك ذلك المبصر بطل ذلك الإدراك. وفي فطرة العقل أن ما يحدث في البصر عند وضع من الأوضاع ويبطل في حال الالتفات ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وفي فطرة العقل أيضاً أن ما يحدث عند فتح الأجفان ويبطل عند انطباق الأجفان ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن المعنى الذي يحدث في البصر الذي منه يدرك البصر المبصر ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر، فقد أدركت أن ذلك الذي يحدث في البصر هو شيء يرد من خارج ومحدثه خارج عن البصر. وإذا كان الإبصار يبطل عند انطباق الأجفان وعند الإعراض ويحدث عند فتح الأجفان وعند المقابلة، فالقوة المميزة تدرك أن الذي يبصر ليس هو ملتصقاً بالبصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن الذي يبصر ليس هو في داخل البصر ولا هو ملتصقاً بالبصر، فقد أدركت أنه بينه وبين البصر بعداً. لأن في فطرة العقل أو في غاية الظهور للتمييز أن ما ليس هو في الجسم ولا ملتصقاً به فإن بينه وبينه بعداً. وهذا هو كيفية إدراك حقيقة بعد المبصر بما هو بعد.
وليس تحتاج القوة المميزة في إدراك البعد إلى التفصيل الذي فصلناه، وإن ما فصلناه للتبيين . والقوة المميزة تدرك نتيجة هذا التفصيل وفي حال الإبصار من غير حاجة إلى تفصيل. فمن إدراك البصر للمبصر عند مقابلته وبطلان الإدراك عند الإعراض عنه أو عند انطباق الأجفان قد أدركت القوة المميزة في الحال أن المبصر خارج عن البصر وغير ملتصق بالبصر. وعلى هذه الصفة أدركت القوة المميزة أن بين المبصر وبين البصر بعداً. ثم لاستمرار هذا المعنى ولتكرره استقر في النفس من حيث لم يحس باستقراره ولا بكيفية استقراره أن جميع المبصرات خارجة عن البصر وأن كل مبصر فبينه وبين البصر بعد. فبعد المبصر عن البصر إنما أدرك بالتمييز وباليسير من التمييز، وهو من إدراك القوة المميزة أن الإبصار الذي يحدث في البصر هو لمعنى خارج عن البصر. ثم استقر هذا المعنى في النفس، فصار كل مبصر يدركه البصر قد فهمت القوة المميزة انه خارج عن البصر وبينه وبين البصر بعد.
ومع ذلك فليس يدرك البعد منفرداً كما ذكرنا من قبل، وليس يدرك البعد إلا مع غيره. وعند كلامنا في كيفية إدراك الوضع يتبين كيف يدرك البعد مع الوضع وكيف يدرك المبصر في موضعه.
فأما كمية البعد فيختلف إدراك البصر لها، ومنها ما يدرك بحاسة البصر لها، ومنها ما يدرك بحاسة البصر ويتحقق مقداره، ومنها ما ليس يدرك بحاسة البصر حقيقة مقداره. فبعد المبصر عن البصر يدرك من كل مبصر، ويتحقق من كل مبصر، وكمية البعد ليس يتحققها البصر من كل مبصر. وذلك أن المبصرات منها ما يكون بينه وبين البصر أجسام مرتبة متصلة، ومنها ما ليس بينه وبين البصر أجسام مرتبة متصلة فإنه إذا أدرك البصر الأجسام المرتبة التي تسامت أبعادها فهو يدرك مقادير تلك الأجسام، وإذا أدرك مقادير تلك الأجسام فهو يدرك مقادير المسافات التي بين أطرافها. والمسافة التي ين طرفي الجسم المرئي المسامت للبعد الذي بين البصر والمبصر، اللذين أحدهما يلي المبصر والآخر يلي الإنسان الناظر، وهي بعد المبصر عن البصر، لأنها تسامت المسافة بين البصر والمبصر. فإذا أدرك البصر مقدار هذه المسافة فقد أدرك مقدار بعد المبصر. فالبصر يدرك كمية أبعاد المبصرات التي أبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة من إدراكه لمقادير الأجسام المرتبة المسامتة لأبعادها.
وهذه المبصرات منها ما أبعادها معتدلة ومنها ما أبعادها خارجة عن الاعتدال. فالتي أبعادها معتدلة فالبصر يدرك مقادير أبعادها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وذلك أن المبصرات التي أبعادها معتدلة وبينها وبين البصر أجسام مرتبة متصلة فإن البصر يدركها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وإذا أدرك هذه المبصرات إدراكاً متيقناً فهو يدرك الأجسام المرتبة المتوسطة بينه وبينها إدراكاً متيقناً. فإذا أدرك هذه الأجسام إدراكاً متيقناً فهو يدرك المسافات التي بين أطرافها إدراكاً متيقناً. وإذا كان يدرك المسافات إدراكاً متيقناً فهو يدرك مقادير أبعاد المبصرات المسامتة لهذه المبصرات المسامتة لهذه المسافات إدراكاً متيقناً. فالمبصرات التي أبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة وأبعادها عن البصر أبعاد معتدلة فالبصر يدرك ومقادير أبعادها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وأريد بالمتيقن غاية ما يدركه الحس.
فأما المبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال، وأبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة، والبصر مع ذلك يدرك تلك الأجسام، فإن إدراك البصر لمقادير أبعادها ليس هو إدراكاً صحيحاً متيقناً. وذلك أن المبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال ليس يدركها البصر إدراكاً محققاً. فإذا كان بين البصر وبين هذه المبصرات أجسام مرتبة متصلة فليس يدرك البصر جميع هذه الأجسام إدراكاً محققاً، فليس يدرك المسافات التي بين أطرافها إدراكاً محققاً، فليس يدرك الأبعاد التي بينه وبين المبصرات التي عند أطراف هذه الجسام إدراكاً محققاً. فالمبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال، وبينها وبين البصر أجسام مرتبة متصلة، فليس يدرك البصر كميات أبعادها إدراكاً محققاً.
فأما المبصرات التي ليس لها تسامت أبعادها أجساماً مرتبة متصلة فليس يدرك البصر كمية أبعادها. ولذلك إذا أدرك البصر السحاب في السهول وفي المواضع التي لا جبال فيها ظن أنه متفاوت البعد قياساً على الأجرام السماوية. وإذا كان السحاب فيما بين الجبال وكان متصلاً فإنه ربما استترت رؤوس الجبال بالسحاب. وإذا كان السحاب منقطعاً ربما ظهرت رؤوس الجبال من فوق السحاب، وربما أدرك البصر القطع من السحاب ملتصقة ببطن الجبل، وربما كان ذلك في الجبال التي ليست بالشاهقة. فيظهر من هذا الاعتبار أن أبعاد السحاب ليست بالمتفاوتة وأن كثيراً منها أقرب إلى الأرض من رؤوس الجبال وأن ما يظن من تفاوت بعدها غلط لا حقيقة له. ويتبين من ذلك أن البصر ليس يدرك مقدار بعد السحاب إذا أدركه في السهول وان مقدار بعد السحاب يدركه البصر إذا كان فيما بين الجبال وظهرت رؤوس الجبال في أعلاه وأدركت المواضع من الجبال التي يماسها السحاب.
وقد يوجد هذا المعنى في كثير من المبصرات التي على وجه الأرض أيضاً، اعني أن الأبعاد التي ليس تسامت أجساماً مرتبة متصلة ليس يدرك البصر مقاديرها. فمما يظهر به ظهوراً بيناً أن ليس يدرك تلك الأجسام ويتحقق مقاديرها، هو أن يعتمد المعتبر بيتاً أو موضعاً لم يدخله من قبل وقت الاعتبار، ويكون في بعض حيطان ذلك البيت أو الموضع ثقب ضيق، ويكون من وراء ذلك الثقب فضاء لم يشاهده المعتبر قبل ذلك الوقت، ويكون في ذلك الفضاء جداران قائمان، ويكون أحد الجدارين أقرب إلى الثقب من الجدار الآخر، ويكون بين الجدارين بعد له قدر، ويكون الجدار الأقرب يستر بعض الجدار الأبعد، ويكون البعض من الجدار البعد ظاهراً، ويكون الثقب مرتفعاً عن الأرض وبحيث إذا نظر الناظر لم ير وجه الأرض التي من وراء الحائط الذي فيه الثقب، فإن المعتبر إذا حصل في هذا الموضع ونظر في الثقب فإنه يرى الجدارين معاً ولا يدرك البعد الذي بينهما. وإن كان بعد الجدار الأول عن الثقب بعداً كبيراً متفاوتاً فإنه يدرك الجدارين كأنهما متماسان وربما ظن انهما واحد متصل إذا كان لوناهما واحداً. وإن كان الجدار الأول على بعد معتدل من الثقب وأحس أن الجدارين اثنان فإنه يظن أنهما متقاربان أو متماسان ولا يتحقق البعد الذي بينهما. ومع ذلك فإنه يدرك الجدار الأول إذا كان بعده معتدلاً كأنه قريب من الثقب ولا يتحقق بعده أيضاً. وليس يتحقق البعد الذي بين الجسمين اللذين بهذه الصفة بحاسة البصر، على تحقيقه إذا لم يكن شاهد ذلك الموضع ولا شاهد ذينك الجدارين من قبل ذلك الوقت ولا تقدم علمه بالبعد الذي بينهما. وربما أدرك البصر الجسمين اللذين بهذه الصفة كأنهما متماسان وإن كان قد تقدم علمه بالبعد الذي بينهما.
وإذا كان البصر ليس يدرك البعد الذي بين الجسمين اللذين بهذه الصفة، فليس يدرك كمية بعد الجسم الأخير، وهو مع ذلك يدرك صورته.وإذا كان ليس يدرك كمية بعد هذا الجسم مع إدراكه لهذا الجسم إذا لم يدرك الأجسام المسامتة لبعده، فليس يدرك البصر كمية بعد المبصر على التحقيق من إدراكه لصورة المبصر، وليس يدرك البصر كمية بعد المبصر إلا بالاستدلال. وليس يستدل بحاسة البصر على مقدار من المقادير إلا بقياس ذلك المقدار إلى مقدار قد أدركه ابصر من قبل أو مقدار يدركه معه في الحال. وليس شيء يقدر به البصر بعد المبصر ويقيسه به ويدرك مع ذلك مقداره على التحقيق بالقياس إلى ذلك الشيء إلا الأجسام المرتبة المسامتة لبعد المبصر. فأما إن قدر البعد بغير هذه الأجسام فهو حدث لا تقدير محقق. فليس تدرك كمية بعد المبصر بحاسة ابصر إلا إذا كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها.
وللاعتبار الذي ذكرناه نظائر كثيرة من المبصرات. وذلك أن الناظر إذا رأى شخصين قائمين على وجه الأرض أو عمودين أو نخلتين، وكان بينهما بعد له قدر، وكان أحدهما يستر بعض الآخر في رأي العين، ولم يدرك الأرض التي بينهما في حال إدراكهما لاستتارهما بالشخص الأول، ولم يكن البصر رأى ذينيك العمودين أو الشخصين قبل ذلك الوقت ، وكان بعد الشخص الأخير ليس من العاد المتفاوتة، فإنه إذا نظر إليهما معاً يظن أنهما متماسان وبينهما بعد يسير ولا يحس بمقدار البعد الذي بينهما. ثم إذا انحرف عن موضعه حتى يرى الأرض المتصلة ينهما أدرك بعد الشخص الأخير وأدرك البعد الذي بين الشخصين وأحس بغلظ البصر في الإدراك الأول. فلو كان الناظر إلى هذين الشخصين يدرك مقدار بعد كل واحد منهما عن البصر من غير إحساسه بالأرض المتصلة بينهما، لقد كان يدرك مقدار بعد أحدهما عن الآخر في حال إدراكهما معاً وأحدهما يستر الآخر ومن قبل أن يدرك الأرض المتصلة بينهما.
وكذلك إن كان الناظر ينظر إلى ثقب ، وكان من وراء الثقب فضاء، وكان ذلك الفضاء حبل ممدود معترض أو عود معترض، وكان بين الحبل والعود وبين الثقب بعد مقتدر، وكان الناظر لا يرى الأرض المتصلة المسامتة للبعد الذي بين الحبل أو العود وبين الثقب، فإن الناظر يظن بذلك الحبل المعترض أو العود المعترض أو المعترض أنه مماس للثقب أو قريب جداً منه، ولا يدرك كمية البعد الذي بين الحبل المعترض أو العود وبين الثقب ما لم يدرك الجسم المتصل المسامت لبعده ولم يتقدم علمه به.
فمن الاعتبار بهذه المعاني يتبين أن البصر ليس يدرك مقادير أبعاد المبصرات عنه إلا إذا كانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة، وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها.
فأما أبعاد المبصرات المتفرقة بعضها من بعض فإن البصر يدركها من إدراك التفرق الذي بين المبصرات. فأما كمية أبعاد المبصرات. فأما كمية أبعاد المبصرات بعضها من بعض فإن أحوالها عند البصر كأحوال أبعاد المبصرات عن البصر. وذلك أن المبصرين المتفرقين إن كان بينهما أجسام مرتبة متصلة، وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها، فهو يدرك كمية البعد الذي بين ذينك المبصرين. وإن لم يكن بين المبصرين أجسام مرتبة متصلة فليس يدرك البصر كمية البعد الذي بين ذينك المبصرين على التحقيق. وكذلك إن كان بين المبصرين أجسام مرتبة متصلة، وكانت على بعد متفاوت، ولم يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، فليس يتحقق مقدار البعد الذي بين ذينك المبصرين.
فأبعاد المبصرات من البصر إنما تدرك بالتمييز من إدراك القوة المميزة لأن الإبصار الذي يحدث في البصر إنما يحدث لمعنى خارج ومن حصول هذا المعنى في النفس واستقراره على مر الزمان من حيث لم يحس باستقراره. وكميات أبعاد المبصرات ليس شيء منها يدرك بحاسة البصر إدراكاً محققاً إلا أبعاد المبصرات التي أبعادها مسامتة لأجسام متصلة وأبعادها مع ذلك معتدلة والبصر مع ذلك يدرك الأجسام المرتبة المسامتة لأبعادها ويتحقق مقادير تلك الأجسام. وما سوى ذلك من المبصرات فليس يتحقق البصر مقادير أبعادها. والتي ليس يتحقق البصر مقادير أبعادها منها ما تكون أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة والبصر مع ذلك يدرك تلك الأجسام، وهي التي تكون أبعاد أطرافها متفاوتة. ومنها ما أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة والبصر ليس يدرك تلك الأجسام كانت أبعادها متفاوتة أو كانت معتدلة. ومنها ما ليس يسامت أبعادها أجساماً مرتبة متصلة، وهي المبصرات المرتفعة عن الأرض المتفاوتة البعد والتي ليس بالقرب منها جبل ولا جدار يسامت بعدها. وجميع المبصرات تنقسم إلى هذه الأقسام.
والمبصرات التي ليس يتحقق البصر مقادير أبعادها إذا أدركها البصر فإن القوة المميزة تحدس في حال إدراكها على مقادير أبعادها حدساً، وتقيس أبعادها بأبعاد أمثالها من المبصرات التي أدركها البصر من قبل وتحقق مقادير أبعادها، وتعتمد في القياس على صورة المبصر فتقيس صورة المبصر بصور المبصرات الشبيهة به التي أدركها البصر من قبل وتحققت القوة المميزة مقادير أبعادها، فتقيس بعد المبصر الذي ليس تتحقق مقدار بعده بأبعاد المبصرات الشبيهة به التي أدركها البصر من قبل وتحققت القوة المميزة مقادير أبعادها. وإذا لم تتحقق القوة المميزة تخطيط صورة المبصر قاست مقدار جملة صورته بمقادير صور المبصرات المساوية لتلك الصور في المقدار التي قد تحققت مقادير أبعادها فتشبه بعد المبصر الذي ليس تتحقق مقدار بعده بأبعاد المبصرات المساوية لذلك المبصر في المقدار التي قد تحققت أبعادها. هذا هو غاية ما تقدر عليه القوة المميزة في التوصل إلى إدراك مقادير أبعاد المبصرات. فربما اتفق لها بهذا القياس أن تصيب في إدراك بعد ما هذه صفته من المبصرات، وربما وقع عليها الغلط. والذي تصيب فيه أيضاً ليس تتحقق أنها مصيبة فيه. وهذا الحدس يكون في غاية السرعة لكثرة اعتياد القوة المميزة لإدراك أبعاد المبصرات بالحدس والتيقن.
وقد تحدث القوة المميزة على مقدار بعد المبصر وإن كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة وكان من الأبعاد المعتدلة وكان يمكن للبصر أن يتحقق مقادير تلك الأجسام، وذلك لاعتياد القوة المميزة للحدس على أبعاد المبصرات ولسرعة حدسها. وإذا كان بعد المبصر من الأبعاد المعتدلة فليس يكون الحدس على بعده وبين حقيقة بعده تفاوت مسرف.
فكل مبصر من المبصرات إذا أدركه البصر فإنه في حال إدراكه قد أدركت القوة المميزة بعده وأدركت مقدار ما في حال إدراكه إما بالتيقن وإما بالحدس، ويحصل لبعده في الحال مقدار متخيل في النفس. فما كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان بعده مع ذلك معتدلاً وكان يدرك تلك الأجسام المرتبة المسامتة لبعده ولحظ ابصر مع تلك الأجسام وكان قد تقدم علم القوة المميزة بها وتحقق مقدارها، فالمقدار الذي يدرك بحاسة البصر لبعد ذلك المبصر وحصلت صورته متخيلة في النفس هو مقدار محقق متيقن.
وما لم يكن بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان يدرك تلك الأجسام وكان البعد مع ذلك متفاوتاً ولم يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، أو كان مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة ولم يكن يدرك تلك الأجسام ولا يتحقق مقاديرها، أو كان البصر يمكن أن يدرك تلك الأجسام ولكن لم يلحظها في الحال ولم يعتبر مقدارها كانت أبعاد تلك المبصرات متفاوتة أو كانت معتدلة فالمقدار الذي يدرك بحاسة البصر لبعد المبصر الذي يأخذ هذه الصفات ويحصل متخيلاً في النفس هو مقدار غير محقق ولا متيقن.
والأبعاد التي بين المبصرات المتفرقة إنما تدرك من إدراك التفرق الذي بين المبصرات. وإدراك كميات الأبعاد التي بين المبصرات المتفرقة كمثل إدراك كميات أبعاد المبصرات عن البصر: منها ما يدرك إدراكاً متيقناً ومنها ما يدرك بالحدس. وإذا أدرك البصر: مبصرين فهو يدرك البعد الذي بينهما ويتخيل مقدار البعد الذي بينهما على مقدار البعد الذي بينهما على مقدار ما. فالمبصران اللذان فيما بينهما أجسام مرتبة متصلة، والبصر يدرك تلك الأجسام ويتحقق مقاديرها، فالمقدار الذي تخيله البصر للبعد الذي بين ذينك المبصرين هو مقدار متحقق متيقن. والمبصرات اللذان ليس ينهما أجسام مرتبة متصلة، أو بينهما أجسام مرتبة متصلة وليس يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، أو ليس يدرك البصر تلك الأجسام، فالمقدار الذي يتخيله البصر للبعد الذي بين ذينك المبصرين هو مقدار غير محقق ولا متيقن. فعلى هذه الصفات يكون إدراك أبعاد المبصرات بحاسة البصر.
وأيضاً فإن المبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة التي يدركها البصر دائماً وعلى الاستمرار ويدرك أبعادها، فإنه يدرك الأجسام المسامتة لأبعادها ويتيقن مقادير أبعادها لكثرة تكررها على البصر، وكثرة تكرار أبعادها على البصر قد صار البصر يدرك مقادير أبعادها بالمعرفة. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات المألوفة وكان على بعد من الأبعاد المألوفة عرفه وعرف بعده وحدس على كمية بعده. وإذا حدس على كمية بعد ما هذه صفته من المبصرات فليس يكون بين حدسه وبين حقيقته كمية ذلك البعد تفاوت مسرف. فالمبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة يدرك البصر كميات أبعادها بالمعرفة من حدسه على كميات أبعادها. وإذا حدس على كميات أبعادها فليس يكون بين الحدس عليها وبين حقيقتها تفاوت كثير. واكثر أبعاد المبصرات يدرك على هذه الصفة.
كتاب : المناظر ● تأليف : ابن الهيثم
منتدى نافذة ثقافية . البوابة