بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من بدء الرحلة وحتى خروجه من الإسكندرية
● [ المقدمة ] ●
قال الشيخ الفقيه العالم الثقة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله.
الحمد لله الذي ذلّل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلاً فجاجاً، وجعل منها وإليها تاراتهم الثلاث نباتاً وإعادة وإخراجا. دحاها بقدرته فكانت مهاداً للعباد، وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد، وأطلع الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر. وجعل القمر نوراً والشمس سراجاً، ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات. وأنبت فيها من كل الثمرات. وفطر أقطارها بصنوف النبات، وفجر البحرين عذباً فراتاً، وملحاً أجاجاً، وأكمل على خلقه الإنعام بتذليل مطايا الأنعام، وتسخير المنشئات كالأعلام لتمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر أثباجاً. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أوضح للخلق منهاجاً. وطلع نور هدايته وهّاجا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين واختاره خاتماً للنبيين وأمكن صوارمه من رقاب المشركين حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأيده بالمعجزات الباهرات، وأنطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته الذمم الباليات، وفجر من بين أنامله ماء ثجّاجاً. ورضي الله تعالى عن المتشرفين بالانتماء إليه أصحاباً وآلاً وأزواجاً، المقيمين تقاة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجاً، فهم الذين آزروه على جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء، وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار اليأس حامية، وخاضوا بحر الموت عجاجاً، ونستوهب الله تعالى لمولانا الإمام الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين المجاهد في سبيل الله المؤيد بنصر الله - أبي عنان فارس ابن موالينا الأئمة المهتدين الخلفاء الراشدين نصراً يوسع الدنيا وأهلها ابتهاجاً، وسعداً يكون لزمانة الزمان علاجاً، كما وهبه الله بأساً وجوداً لم يدع طاغياً ولا محتاجاً، وجعل بسيفه وسيبه لكل ضيقة انفراجاً. وبعد، فقد قضت العقول، وحكم المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية، المجاهدة المتوكلة الفاسية. هي ظل الله الممدود على الأنام، وحبله الذي به الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام، فهي التي أبرأت الدين عند اعتلاله، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت الأيام بعد فسادها، ونفقت سوق العلم بعد كسادها، وأوضحت طرق البر عند انتهاجها، وسكنت أقطار الأرض عند ارتجاجها، وأحيت سنن المكارم بعد مماتها، وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها، وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها، وأنقضت حكام البغي عند استقلالها، وشادت مباني الحق على عماد التقوى، واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى، فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جر أذياله على مجرة السماء، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه، والعدل الذي على أهل الإيمان مدّ يد أطنابه، والجود الذي قطر سحابه اللجين والنضار، والبأس الذي فيه غمامة الدر الموار، والنصر الذي تفض كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول، والبطش الذي سبق سيفه العذل، والأناة التي لا يمل عندها الأمل، والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب، والعزم الذي يفل جموعها قبل قراع الكتائب، والحلم الذي يجني العفو من ثمر الذنوب، والرفق الذي جمع على محبته بنات القلوب، والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات والعمل المفيد بالإخلاص والأعمال بالنيات.
ولما كانت حضرته العلية: مطمح الآمال، ومسرح همم الرجال، ومحط رحال الفضائل، ومثابة أمن الخائف، ومنية السائل، توخى الزمان خدمتها ببدائع تحفه، ورائع طرفه، فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفات، وتسابق إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى العداة، وحج العارفون حرمها الشريف، وقصد السائحون استطلاع معناها المنيف، ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها، واستجارت الملوك بخدمة أبوابها، فهي القطب الذي عليه مدار العالم، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم، وعن مآثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كل مسلم، وبإكمال محاسنها الرائقة يفصح كل معلم، وكان ممن وفد على بابها السامي، وتعدى أوشال البلاد إلى بحرها الطامي، الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق، جوال الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض، أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض معتبراً، وطوى الأمصار مختبراً، وباحث فرق الأمم، وسبر سير العرب والعجم، ثم ألقى عصا التسيار بهذه الحضرة العليا، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا ثنيا، وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالغرب، وآثرها على الأقطار إيثار التبر على الترب، اختياراً بعد طول اختبار البلاد والخلق، ورغبة اللحاق بالطائفة المثلى، التي على الحق فغمره من إحسانه الجزيل، وامتنانه الحفي الحفيل، ما أنساه الماضي بالحال، وأغناه عن طول الترحال، وحقر عنده ما كان من سواه يستعظمه، وحقق لديه ما كان من فضله يتوهمه، فنسي ما كان ألفه من جولان البلاد، وظفر بالمرعى الخصب بعد طول الإرتياد، ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار، وعلمائها الأخيار، وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر، من كل غريبة أفاد باجتلائها، وعجيبة أطرف بانتحائها. وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم. محمد ابن محمد بن جزي الكلبي، أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، أن يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك مشتملاً في تصنيف يكون على فوائده مشتملاً، ولنيل مقاصده مكملاً، متوخياً تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمداً إيضاحه وتقريبه، ليقع الاستمتاع بتلك الطرف، ويعظم الانتفاع بدرّها عند تجريده من الصدف. فامتثل ما أمر به مبادراً، وشرع في منهله ليكون بمعونة الله عن توفية الغرض منه صادراً، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه، فلم أخل بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك وقيدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط، ليكون أنفع في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية، لأنها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس، وإنا فنرجو أن يقع ما قصدته من المقام العلي، أيده الله بمحل القبول، وأبلغ من الإغضاء عن تقصيره المأمول، فعوائدهم في السماح جميلة، ومكارمهم بالصفح عن الهفوات كفيلة، والله تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف التأييد والفتح المبين.
● [ بدء الرحلة والخروج من طنجة ] ●
قال الشيخ أبو عبد الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمداً حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. منفرداً عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمرى على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا من الفراق نصباً وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة. قال ابن جزي: أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة.
وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين الذي رويت أخبار جوده موصولة الإسناد بالإسناد، وشهرت آثار كرمه شهرة واضحة الإشهاد، وتحلت الأيام بحلى فضله، ورتع الأنام في ظل رفقه وعدله، الإمام أبي سعيد ابن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين الذي فل حد الشرك صدق عزائمه، وأطفأت نار الكفر جداول صارمه، وفتكت بعباد الصليب كتائبه، وكرمت في إخلاص الجهاد مذاهبه، الإمام أبي يوسف ابن عبد الحق، جدد الله عليهم رضوانه، وسقى ضرائحهم من صوب الحيا طله وتهتانه، وجزاهم أفضل الجزاء عن الإسلام والمسلمين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. فوصلت مدينة تلمسان وسلطانها يومئذ أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمر أسن بن زيان. ووافقت بها رسولي ملك إفريقية السلطان أبي يحيى رحمه الله، وهما قاضي الأنكحة بمدينة تونس أبو عبد الله محمد بن أبي بكر علي بن إبراهيم النفزاوي، والشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزبيدي - بضم الزاي نسبة إلى قرية بساحل المهدية، وهو أحد الفضلاء وكانت وفاته عام أربعين. وفي يوم وصولي إلى تلمسان، خرج عنها الرسولان المذكوران، فأشارعلي بعض الاخوان بمرافقتهما، فاستخرت الله عز وجل في ذلك وأقمت بتلمسان ثلاثاً في قضاء مآربي، وخرجت أجدّ السير في آثارهما، فوصلت مدينة مليانة، وأدركتهما بها، وذلك في إبان القيظ. فلحق الفقيهين مرض أقمنا بسببه عشراً، ثم ارتحلنا وقد اشتد المرض بالقاضي منهما، فأقمنا ببعض المياه على مسافة أميال من مليانة ثلاثاً وقضى القاضي نحبه ضحى اليوم الرابع، فعاد ابنه أبو الطيب ورفيقه أبو عبد الله الزبيدي إلى مليانة فقبروه بها. وتركتهم هنالك، وارتحلت مع رفقة من تجار تونس منهم الحاج مسعود بن المنتصر، والحاج العدولي، ومحمد بن الحجر، فوصلنا مدينة الجزائر، وأقمنا بخارجها أياماً، إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي. فتوجهنا جميعاً على منبجة جبل الزان، ثم وصلنا إلى مدينة بجاية فنزل الشيخ أبو عبد الله بدار قاضيها أبي عبد الله الزواوي، ونزل أبو الطيب ابن القاضي بدار الفقيه أبي عبد الله المفسر، وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد الحاجب، وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر الذي تقدم ذكره. وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة، ليوصلها إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لأبى عبد الله محمد الحاجب المذكور فانتزعها من يده، وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم، ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته، أصابتني الحمى، فأشار علي أبو عبد الله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء مني، فأبيت وقلت إن قضى الله عز وجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أرض الحجاز. فقال لي أما إن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع، وأنا أعيرك دابة وخباء وتصحبنا خفيفاً، فإننا نجدّ السير خوف غارة العرب في الطريق، ففعلت هذا، وأعارني ما وعد به، جزاه الله خيراً وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك الوجهة الحجازية. وسرنا إلى أن وصلنا مدينة قسنطينية ، فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود فاضطررنا إلى الخروج عن الأخبية ليلاً إلى دور هنالك. فلما كان من الغد تلقانا حاكم المدينة وهو من الشرفاء الفضلاء يسمى بأبي الحسن، فنظر إلى ثيابي وقد لوثها المطر، فأمر بغسلها في داره، وكان الإحرام منها خلقاً، فبعث مكانه إحراماً بعلبكياً وصرّ في أحد طرفيه دينارين من الذهب. فكان ذلك أول ما فتح به على وجهتي، ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة ونزلنا بداخلها. وأقمنا بها أياماً، ثم تركنا بها ما كان في صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق، وتجردنا للسير، وواصلنا الجد، وأصابتني الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف، ولا يمكنني النزول من الخوف، إلى أن وصلنا إلى مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزبيدي ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبد الله النفزاوي، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ولم يسلّم علي أحد، لعدم معرفتي بهم، فوجدت من ذلك النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل علي بالسلام والإيناس، وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين. قال ابن جزي: أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو البركات محمد بن محمد ابراهيم السلمي هو ابن الحاج البلفيقي أنه جرى له مثل هذه الحكاية. قال قصدت مدينة بلش من بلاد الأندلس في ليلة عيد، برسم رواية الحديث المسلسل بالعيد عن أبي عبد الله ابن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت الصلاة والخطبة، أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم والإيناس، وقال: نظرت إليك، فرأيتك منتبذاً عن الناس، لا يسلم عليك أحد فعرفت أنك غريب فأحببت إيناسك جزاه الله خيراً.
● [ ذكر سلطان تونس ] ●
وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله. وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد ابن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل، ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع، وولي أيضاً قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي أيضاَ قضاءها وكان من أعلام العلماء. ومن عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل. فإذا أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيد الفطر، فحضرت المصلّى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم، وبرزوا في أجمل هيئة وأكمل شارة. ووافى المسجد السلطان أبو يحيى المذكور راكباً وجميع أقاربه وخواصه، وخدم مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصليت الصلاة، وانقضت الخطبة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تعين لركب الحجاز الشريف شيخه ويعرف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية، وأكثره المصامدة. فقدموني قاضياً بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة، وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطىء البحر، بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلاً، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه.
ثم وصلنا إلى مدينة قابس ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها عشراً لتوالي نزول الأمطار، ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصحبنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيد، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل. وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس في أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين، ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفاً من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت. وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا، ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتاً لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوماً وأطعمتهم،
● [ ذكر الإسكندرية ] ●
ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حرسها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس العجيبة الشأن الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة في تجلي سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغرِب، والجامعة لمفترق المحاسن، لتوسطها بين المشرق والمغرب، فكل بديعة بها اختلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها. وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.
● [ ذكر أبوابها ومرساها ] ●
ولمدينة الاسكندرية أربعة أبواب: باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر، وليس يفتح إلا يوم الجمعة، فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور. ولها المرسى العظيم الشأن ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك ومرسى الزيتون ببلاد الصين، وسيقع ذكرها.
● [ ذكر المنار ] ●
قصدت المنار في هذه الوجهة فرأيت أحد جوانبه متهدماً. وصفته أنه بناء مربع، ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع على الأرض وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وضعت بينهما ألواح خشب يعبر عليها إلى بابه، فاذا أزيلت لم يكن له سبيل. وداخل الباب موضع لجلوس حارس المنار. وداخل المنار بيوت كثيرة. وعرض الممر بداخله تسعة أشبار، وعرض الحائط عشرة أشبار، وعرض المنار من كل جهة من جهاته الأربع مائة وأربعون شبراً وهو على تل مرتفع. ومسافة ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بر مستطيل يحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة وفي هذا البر المتصل بالمنار مقبرة الإسكندرية. وقصدت المنار عند عودي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة، فوجدته قد استولى عليه الخراب، بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه. وكان الملك الناصر رحمه الله قد شرع في بناء منار مثله بإزائه، فعاقه الموت من إتمامه.
● [ ذكر عمود السواري ] ●
ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المسمى عندهم بعمود السواري وهو متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سمواً وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الجمع الغفير لمشاهدته، وطال العجب منه، وخفي على الناس وجه احتياله وأظنه كان خائفاً، أو طالب حاجة، فأنتج له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى بنشابة قد عقد بفوقها خيطاً طويلاً، وعقد بطرف الخيط حبلاً وثيقاً، فتجاوزت النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت من الجهة الموازية للرامي، فصار الخيط معترضاً على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه من إحدى الجهتين في الأرض، وتعلق به صاعداً من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى بصلاح الدين وكان فيها أيضاً في ذلك العهد سلطان أفريقية المخلوع، وهو زكرياء أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني. وأمر الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة درهم في كل يوم. وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري واسكندري وحاجبه أبو زكريا بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين. وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور، وولده الاسكندري وبقي المصري بها. قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر في اسمي ولدي اللحياني الاسكندري والمصري فمات بها، وعاش المصري دهراً طويلاً بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية، وتوفي هنالك بجزيرة جربة.
● [ ذكر بعض علماء الإسكندرية ] ●
فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي، إمام من أئمة علم اللسان. وكان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها رأيته يوماً قاعداً في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب ومنهم فخر الدين بن الريغي وهو أيضاً من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.
يذكر أن جد القاضي فخر الدين الريغي من أهل ريغة، واشتغل بطلب العلم، ثم رحل إلى الحجاز، فوصل الإسكندرية بالعشي. وهو قليل ذات اليد، فأحب أن لا يدخلها حتى يسمع فالاً حسناً فقعد قريباً من بابها، إلى أن دخل جميع الناس. وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه، وقال متهكماً أدخل يا قاضي فقال: قاض إن شاء الله، ودخل إلى بعض المدارس، ولازم القراءة وسلك طريق الفضلاء، فعظم صيته، وشهر اسمه، وعرف بالزهد والورع، واتصلت أخباره بملك مصر. واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية، وهو من بينهم، لا يتشوف لذلك فبعث إليه السلطان بالتقليد، وهو ظهير القضاء، وأتاه البريد بذلك، فأمر خديمه أن ينادى في الناس من كانت له خصومة فليحضر لها وقعد للفصل بين الناس. فاجتمع الفقهاء وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن القضاء لا يتعداه، وتفاوضوا في مراجعة السلطان في أمره، ومخاطبته بأن الناس لا يرتضونه. وحضر لذلك أحد الحذاق من المنجمين فقال لهم: لا تفعلوا ذلك فإني عدلت طالع ولايته، وحققته فظهر لي أنه يحكم أربعين سنة. فأضربوا عما هموا به من المراجعة في شأنه. وكان أمره على ما ظهر للمنجم. وعرف في ولايته بالعدل والنزاهة. ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من قضاتها مشتهر بالعلم والفضل. ومنهم شمس الدين ابن بنت التنيسي فاضل شهير الذكر. ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله الفاسي من كبار أولياء الله تعالى، يذكر أنه كان يسمع رد السلام عليه إذا سلم من صلاته. ومنهم الإمام العالم الزاهد الخاشع الورع خليفة صاحب المكاشفات.
● كرامة له:
أخبرني بعض الثقات من أصحابه قال رأى الشيخ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم. فقال يا خليفة: زرنا فرحل إلى المدينة الشريفة، وأتى المسجد الكريم، فدخل من باب السلام، وحيا المسجد، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد مستنداً إلى بعض سواري المسجد، ووضع رأسه على ركبتيه، وذلك يسمى عند المتصوفة الترفيق. فلما رفع رأسه وجد أربعة أرغفة، وآنية فيها لبن، وطبقاً فيه تمر، فأكل هو وأصحابه وانصرف عائداً إلى الإسكندرية ولم يحج تلك السنة. ومنهم الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج، من كبار الزهاد وأفراد العباد، لقيته أيام مقامي بالإسكندرية وأقمت في ضيافته ثلاثاً.
● ذكر كرامة له:
دخلت عليه يوماً فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد فقلت له: نعم إني أحب ذلك. ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكرياء بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام فعجبت من قوله وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم، وأبلغتهم سلامه. ولما ودعته زودني دراهم لم تزل عندي محوطة. ولم أحتج بعد إلى إنفاقها، إلى أن سلبها مني كفار الهنود، فيما سلبوه لي في البحر.
ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي، من أفراد الرجال. وهو تلميذ أبي العباس المرسي. وأبو العباس المرسي تلميذ ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية.
● [ كرامة لأبي الحسن الشاذلي ] ●
أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف، ويعود على الدرب الكبير إلى بلده. فلما كان في بعض السنين، وهي آخر سنة خرج فيها، قال لخديمه: استصحب فأساً وقفة وحنوطاً، وما يجهز به الميت. فقال له الخديم: ولم ذا يا سيدي ? فقال له: في حميثرا سوف ترى. وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماء زعاق. وهي كثيرة الضباع. فلما بلغا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن، وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته، ودفن هناك. وقد زرت قبره وعليه تبرية مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلاً بالحسن بن علي رضي الله عنه.
● [ ذكر ما جرى بالإسكندرية ] ●
ومما جرى بمدينة الإسكندرية سنة سبع وعشرين. وبلغنا خبر ذلك بمكة شرفها الله، أنه وقع بين المسلمين وتجار النصارى مشاجرة. وكان والي الإسكندرية رجلاً يعرف بالكركي. فذهب إلى حماية الروم، وأمر المسلمين فحضروا بين فصيلي باب المدينة. وأغلق دونهم الأبواب نكالاً لهم. فأنكر الناس ذلك وأعظموه، وكسروا الباب، وثاروا إلى منزل الوالي، فتحصن منهم، وقاتلهم من أعلاه، وطير الحمام بالخبر إلى الملك الناصر، فبعث أميراً يعرف بالجمالي، ثم أتبعه أميراً يعرف بطوغان، جباراً قاسي القلب متهماً في دينه. يقال : إنه كان يعبد الشمس. فدخلا إسكندرية، وقبضا على كبار أهلها وأعيان التجار بها، كأولاد الكوبك وسواهم. وأخذ منهم ألأموال الطائلة وجعلت في عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد. ثم أن الأميرين قتلا من أهل المدينة ستة وثلاثين رجلاً. وجعلوا كل رجل قطعتين، وصلبوهم صفين وذلك في يوم جمعة وخرج الناس على عادتهم من الصلاة لزيارة القبور وشاهدوا مصارع القوم. فعظمت حسرتهم وتضاعفت أحزانهم. وكان في جملة أولئك المصلوبين تاجر كبير القدر يعرف بابن رواحة. وكان له قاعة معدة للسلاح. فمتى كان خوف أو قتال جهز منها المائة والمائتين من الرجال بما يكفيهم من الأسلحة. وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها. فزل لسانه وقال للاميرين أنا أضمن هذه المدينة وكل ما يحدث فيها أطالب به، وأحوط على السلطان مرتبات العساكر والرجال. فأنكر الأميران قوله، وقالا: إنما تريد الثورة على السلطان وقتلاه. وإنما كان قصده رحمه الله إظهار النصح والخدمة للسلطان فكان فيه حتفه وكنت سمعت أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين وأنه منقطع بمنية بني مرشد له هنالك زاوية، هو منفرد فيها، لا خديم له ولا صاحب. ويقصده الأمراء والوزراء، وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم، فيطعمهم الطعام. وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعاماً أو فاكهة أو حلوى فيأتي لكل واحد بما نواه، وربما كان ذلك في غير إبانه. ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة، فيولي ويعزل، وذلك كله أمر مستفيض متواتر. وقد قصده الملك الناصر مرات بموضعه.
● [ ذكر خروجه من الإسكندرية ] ●
وتجواله فى مصر
وتجواله فى مصر