بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم سفر نامة تأليف : ناصر خسرو ● [ العودة الى مصر ثم مغادرتها لمتابعة الرحلة ] ●
ثم توجهنا ناحية مصر فبلغناها بعد خمسة وسبعين يوما وقد هاجر إليها من الحجاز في هذا العام خمسة وثلاثون ألف آدمي فكساهم السلطان وأجرى عليهم الرزق سنة كاملة وقد كانوا جميعاً جائعين عرايا ولما أمطرت السماء في بلادهم وكثر فيها الطعام كساهم السلطان صغيرهم وكبيرهم وأغدق عليهم الصلات ثم رحلهم إلى الحجاز وفي شهر رجب سنة أربعين وأربعمائة ديسمبر سنة قرأوا على الناس مرة أخرى مثالا للسلطان بان في الحجاز قحطا وليس من الخير إن يسافر الحجاج فلينفقوا المال على أنفسهم وليفعلوا ما أمر الله به وفي هذه السنة أيضاً لم يسافر الحجاج ولكن السلطان لم يقصر البتة في إرسال ما كان يرسله كل سنة من الكسوة وأجور الخدم والحاشية وأمراء مكة والمدينة وصلة أمير مكة وقد كانت ثلاثة آلاف دينار في الشهر وكانت ترسل إليه الخيول والخلع مرتين في السنة وعهد بهذا في هذه السنة إلى رجل اسمه القاضي عبد الله من قضاة الشام وقد ذهبت معه من طريق القلزم وقد بلغت السفينة الجار في الخامس والعشرين من ذي القعدة كان موعد الحج قد قرب كثيراً كان الجمل يؤجر بخمسة دنانير فذهبنا مسرعين. بلغت مكة في الثامن من ذي الحجة وأديت فريضة الحج بعون الله سبحانه و تعالى وقد حدث إن قافلة عظيمة أتت للحج من بلاد المغرب وفي أثناء عودة حجاجها عند باب المدينة المنورة طلب العرب الخفارة منهم فقامت الحرب بينهم وقتل من المغاربة أكثر من ألفي رجل ولم يعد كثير منهم إلى المغرب وفي هذه الحجة أيضاً قام جماعة من أهل خراسان عن طريق الشام ومصر فبلغوا المدينة في سفينة وقد بقي عليهم إن يقطعوا مائة فرسخ وأربعة حتى عرفات وهم في السادس من ذي الحجة فقالوا إن كلا منا يدفع أربعين دينارا لمن يرحلنا إلى مكة في هذه الأيام الثلاثة الباقية لنلحق الحج فجاء الأعراب وأوصلوهم إلى عرفات في يومين ونصف يوم وأخذوا أجورهم ذهباً وكانوا قد شدوهم إلى جمال سريعة وأتوا بهم من المدينة إلى عرفات وقد هلك اثنان منهم وكانوا موثقين على الجمال كان أربعة منهم نصف أموات وقد بلغوا عرفات ونحن هناك ساعة صلاة العصر وكانوا لا يستطيعون الوقوف أو الكلام قالوا إنا توسلنا كثيراً في الطريق إن يأخذ هؤلاء الأعراب الذهب الذي اشترطنا وإن يتركونا فإنه لا طاقة لنا على مواصلة السفر ولكنهم لم يسمعوا لنا وساقونا على هذا النحو ومهما يكن فقد حج هؤلاء الأربعة وعادوا عن طريق الشام. وبعد إن أكملت الحج توجهت نحو مصر فقد كانت لي بها كتب ولم يكن في نيتي إن أعود إليها وقد صحبت أمير مكة إلى مصر هذا العام فقد كان له رسم على السلطان يعطاه كل سنة لقرابته من أبناء الحسين بن علي صلوات الله عليهما فركبت السفينة معه حتى مدينة القلزم ومن هناك سرنا إلى مصر . في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وأنا بمصر جاء الخبر إن ملك حلب قد شق عصا الطاعة على السلطان كان تابعاً له كان آباؤه ملوكا على حلب كان للسلطان خادم اسمه عمدة الدولة هو أمير المطالبين كان عظيم الجاه والمال ويسمى مطالباً من يبحث عن تلال مصر عن الكنوز والدفائن ويأتي لهذا الأمر رجال من المغرب وأديار مصر والشام ويتحمل كل منهم المشاق وينفق المال الكثير في تلال مصر ومحاجرها وكثيرا ما لا يجدون الدفائن والكنوز وكثيراً ما ينفقون المال ولا يهتدون إلى شيء منها فإنهم يقولون إن أموال فرعون مدفونة في هذه المواضع ويأخذ السلطان خمس ما يكشفه المطالب والباقي له قصارى القول إن السلطان بعث هذا الخادم إلى حلب وأمده بقوة ليشد أزره وأعطاه كل ما ينبغي للملوك من الدهاليز والسرر فلما بلغ حلب وقاتل وقتل وكانت أمواله من الكثرة بحيث استغرق نقلها من خزائنه إلى خزائن السلطان شهرين كان من جملتها ثلاثمائة جارية أكثرهن كالبدور وبعض سراريه وقد أمر السلطان بان يكن مخيرات فمن رغبن في الزواج منهن زوجهن ومن لم يردن أعدن إلى بيوتهن وصرفت إليهن أموالهن كاملة فلم تجبر واحدة منهن على شيء. ولما قتل عمدة الدولة خاف ملك حلب إن يرسل له السلطان جيشا فبادر بإرسال ابنه وهو في السابعة من عمره مع زوجه ومعهما كثير من التحف والهدايا للسلطان وذلك ليعتذرا عما فعل فلما جاءا مكثا ما يقرب من شهرين خارج مصر ولم يؤذن لهما بالدخول ولم تقبل تحفهما إلى إن شفع لهما الأئمة والقضاة عند السلطان وتوسلوا إليه إن يقابلهما ففعل ثم رجعا بالتشريف والخلع ومن جملة ما رأيت في مصر أنه إذا أراد أحدهم غرس حديقة يستطيع ذلك في أي فصل من فصول السنة فإنه يحصل دائما على الشجر الذي يريد فيزرعه مثمراً أو بغير ثمر وهناك تجار لذلك يقدمون كل ما يطلب منهم فقد زرعوا الأشجار في أصص ووضعوها فوق الأسطح وكثير من سقوف بيوتهم حدائق أكثرها مثمر من النارنج والترنج والرمان والتفاح والسفرجل والورد والريحان والزهر فإذا اشترى أحدهم شجرا حمل الحمالون الأصص بالشجر بعد شدها على لوح من خشب ونقلوها إلى حيث يشاء ثم يحفر الزراع الأرض لغرس الشجر إما بكسر الأصص أو بنزع الشجر منها من غير إن يضار الشجر بهذا ولم أر هذا النظام في أي مكان آخر كما أني لم أسمع به والحق أنه نظام جميل جداً. العودة إلى خراسان عن طريق الصعيد الأعلى وبلاد العرب والعراق والآن أعود إلى وطني من مصر عن طريق مكة حرسها الله تعالى من الآفات أقول: أديت صلاة العيد في القاهرة وغادرت مصر في سفينة يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة إبريل واتجهنا نحو الصعيد الأعلى وهو ولاية مصرية في الجنوب يأتي منها ماء النيل إلى مصر وأكثر رغدها منه وهناك على ضفتي النيل كثير من المدن والقرى يطول وصفها. وقد بلغنا مدينة تسمى أسيوط يزرع فيها الأفيون وهو الخشخاش وحبه أسود حين تنمو الشجرة تكسر ويربط كيس في موضع الكسر فيخرج منه عصير يشبه اللبن فيجمعونه ويحفظونه وهو الأفيون وبذور هذا الخشخاش صغيرة مثل الكمون وينسجون في أسيوط عمائم من صوف الخراف لا مثيل لها في العالم والصوف الدقيق الذي يصدر إلى بلاد العجم والمسمى الصوف المصري كله من الصعيد الأعلى لأنهم لا ينتجون الصوف بمدينة مصر نفسها وقد رأيت في أسيوط فوطة من صوف الغنم لم أر مثلها في لهاورأو ملتان وهي من الرقة بحيث تحسبها حريراً. ومن هناك بلغنا مدينة تسمى قوص رأيت فيها أبنية عظيمة من الحجارة تبعث على العجب في نفس من يراها وهي مدينة قديمة محاطة بسور من الحجر وأكثر أبنيتها من الحجارة الكبيرة التي يزن الواحد منها عشرين أو ثلاثين ألف من والعجيب أنه ليس على مسافة عشرة أو خمسة عشر فرسخاً منها جبل أو محجر فمن أين وكيف نقلوا هذه الحجارة? ومن قوص بلغت مدينة تسمى إخميم وهي مدينة واسعة عامرة رجالها أشداء لها سور حصين وبها نخل وبساتين كثيرة وقد أقمت بها عشرين يوما وفي هذه الجهة طريقان أحدهما صحراوي لا ماء فيه والثاني طريق النيل وقد ترددنا أي الطريقين نسلك وأخيراً سرنا في طريق النيل وبلغنا مدينة أسوان. عند الجانب الجنوبي من أسوان جبل يخرج من وسطه النيل ويقال إن السفن لا تستطيع المضي في النيل وراء هذا الجبل لأن الماء هناك ينحدر من شلالات عظيمة وعلى مسافة أربعة فراسخ من هذه المدينة طريق ولاية النوبة وهي ولاية أهلها جميعا نصارى ويرسل ملوكها من قديم الهدايا لسلطان مصر وبين البلدين عهود ومواثيق فلا يذهب جيش السلطان هناك ولا يؤذي أهلها ومدينة أسوان محصنة جدا بحيث لا يستطيع أحد إن يقصدها من النوبة وبها جيش دائم للمحافظة عليها وعلى ولايتها ويقابل المدينة جزيرة وسط النيل كأنها حديقة فيها نخل وزيتون وأشجار أخرى وزرع كثير ويروى زرعها بالسواقي وقد لبثت بها واحداً وعشرين يوماً كان أمامنا حتى شاطئ البحر صحراء فسيحة طولها أكثر من مائتي فرسخ . وكان حينذاك الموسم الذي يعود فيه الحجاج على الجمال فانتظرناهم لنستأجرها ونذهب بها وهي راجعة وكنت عرفت وأنا في أسوان رجلاً تقياً صالحاً يعرف شيئاً من علم المنطق اسمه عبد الله محمد بن فليج وقد عاونني في اكتراء الجمل واختيار الرفيق وغير ذلك وقد استأجرت جملاً بدينار ونصف دينار ورحلت عن هذا البلد في الخامس من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة يوليو كان الطريق يتجه نحو الجنوب. بعد ثمانية فراسخ من رحلتنا بلغنا جهة تسمى ضيقة وهي واد في الصحراء على جانبيه حائطان من الجبال وسعته مائة ذراع وقد حفر فيه بئر يخرج منه ماء كثير ولكنه ليس عذبا وبعد إن تركنا ضيقة سرنا خمسة أيام في صحراء لا ماء فيها كان مع كل منا قربة ماء ثم بلغنا منزلا يسمى الحوض وهو جبل حجري فيه عينان يتفجر منهما ماء عذب يستقر في حفرة ولم يكن بد من إن يذهب رجل إلى حيث العينان ليحضر الماء لشرب الإبل التي مضى عليها سبعة أيام لم تشرب فيها ولم تأكل إذ إن علفها قد نفد كله وكانت تستريح مرة في الأربع وعشرين ساعة وذلك من الوقت الذي تشتد فيه حرارة الشمس حتى صلاة العصر وتسير بقية الوقت والمنازل التي ينزلون بها معلومة فليس ممكنا النزول في أي مكان لتعذر وجود ما توقد به النار أما في هذه المنازل فإنهم يجدون بعر الإبل فيتخذونه وقودا يطبخون عليه ما تيسر كان الإبل تعلم أنها إن أبطأت ماتت عطشا فهي تسير غير محتاجة لأن يسوقها أحد متجهة من تلقاء نفسها ناحية المشرق في هذه الصحارى حيث لا أثر أو علامة تدل على الطريق وهناك أمكنة يقل فيها الماء مسافة خمسة عشر فرسخاً ويكون ملحا وأمكنة لا يوجد فيها ماء قط مسافة ثلاثين أو أربعين فرسخاً. وفي العشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أغسطس بلغنا مدينة عيذاب ومن أسوان حتى عيذاب التي بلغناها بعد خمسة عشر يوما مائتا فرسخ بالتحديد ومدينة عيذاب هذه تقع على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة وسكانها خمسمائة وهي تابعة لسلطان مصر وفيها تحصل المكوس على ما في السفن الوافدة من الحبشة وزنجبار واليمن ومنها تنقل البضائع على الإبل إلى أسوان في هذه الصحراء التي اجتزناها ومن هناك تنقل بالسفن إلى مصر في النيل وعلى يمين عيذاب ناحية القبلة جبل من خلفه صحراء عظيمة بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البجة وهم قوم لا دين لهم ولا ملة لا يؤمنون بنبي أو إمام وذلك لبعدهم عن العمران وهم يسكنون الصحراء طولها أكثر من ألف فرسخ وعرضها ثلاثمائة فرسخ وليس في هذه المسافة الشاسعة سوى مدينتين صغيرتين تسمى الأولى بحر النعام والثانية عيذاب وتمتد هذه الصحراء من مصر إلى الحبشة وذلك من الشمال إلى الجنوب وعرضها من بلاد النوبة حتى بحر القلزم وذلك من الغرب إلى الشرق ويقيم بها البجة وهم ليسوا أشرار فهم لا يسرقون ولا يغيرون بل يشتغلون بتربية ماشيتهم ويسرق المسلمون وغيرهم أبناءهم ويحملونهم إلى المدن الإسلامية ليبيعوهم فيها وبحر القلزم هذا خليج يتفرع من المحيط عند ولاية عدن ويسير شمالا حتى مدينة القلزم الصغيرة ويسمى هذا البحر بكل مدينة تقع عليه فمرة يسمى القلزم ومرة عيذاب ومرة بحر النعام وقيل إن به أكثر من ثلاثمائة جزيرة تأتي السفن منها محملة بالزيت والكشك وقيل إن هناك بقراً وخرافاً كثيرة والناس هناك مسلمون بعضهم تابع لمصر وبعضهم لليمن وليس في مدينة عيذاب الصغيرة غير ماء المطر فلا بئر فيها ولا عين فإذا لم تمطر السماء أحضر البجة الماء وباعوه وقد بقينا هناك ثلاثة أشهر وكنا نشتري قربة الماء بدرهم أو بدرهمين وسبب بقائنا هذه المدة إن السفينة لم تقلع إذ كانت الريح شمالية كان ينبغي لرحلتنا ريح الجنوب وحينما رآني الناس طلبوا إلي إن أكون خطيبهم فلم أردهم وخطبت لهم تلك المدة حتى أتى الموسم ثم سارت السفينة شمالاً إلى إن بلغنا جدة ويقال إن الجمال النجيبة لا توجد في مكان آخر غير هذه الصحراء وهي تنقل منها إلى مصر والحجاز . وقد حكى لي رجل أعتمد على قوله من مدينة عيذاب قال كنت في سفينة محملة بالجمال لأمير مكة فمات جمل منها فرموه في البحر فابتلعنه سمكة في الحال ولم يبق خارج فمها غير رجله فجاءت سمكة أخرى وابتلعت هذه السمكة بالجمل ولم يظهر عليها أي أثر من ذلك ويسمى هذا السمك بالقرش. ورأيت في هذه المدينة جلد سمك يسمونه في خراسان الشفق ويظنون انه نوع من الضب ولكني رأيت في عيذاب أنه سمك وله كل ما للسمك من زعانف. حينما كنت في أسوان كان لي صديق ذكرت اسمه قبلاً وهو أبو عبد الله محمد بن فليج فلما ذهبت من هناك إلى عيذاب كتب من إخلاصه لي لوكيله بها كتابا يقول فيه إعط ناصراً ما يريد وهو يعطيك صكا للحساب فلما بقيت بها ثلاثة أشهر وأنفقت ما معي اضطررت إن أعطي هذه الورقة للوكيل فأكرمني وقال إن له والله لدي أشياء كثيرة وإني معطيك ما تريد واعطني صكا به فتعجبت من حسن صنع هذا الرجل محمد ابن فليج الذي أظهر كل هذه الطيبة بغير سابقة مني إليه ولو كنت رجلا دنيئا واستحللت لنفسي إن آخذ لأخذت بهذه الورقة أشياء كثيرة وقد أخذت منه مائة منّ من الدقيق وهو مقدار كبير هناك وأعطيته صكاً به أرسله إلى أسوان وقبل رحيلي من عيذاب ورد خطاب من محمد فليج لوكيله يقول فيه أعط ناصراً كل ما يريد مهما تكن قيمته مما لي عندك وإذا أراد فأعطه من مالك وأنا أعطيك عوضاً عنه فقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى الله عنه وارضاه " المؤمن لا يكون محتشماً ولا مغتنماً " وقد كتبت هذا الخبر حتى يعرف القارئ إن الرجل يعتمد على الرجل وإن الكرم في كل مكان وإن أهله كانوا وسيكونون دائما كرام.
● [ وصف بلاد العرب ] ●
جدة وجدة مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر وبها خمسة آلاف رجل وهي شمال البحر الأحمر وفيها أسواق جميلة وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق وليس بخارجها عمارات أبداً عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها بوابتان إحداهما شرقية تؤدي إلى مكة والثانية غربية تؤدي إلى البحر ويبلغ السائر من جدة جنوبا على شاطئ البحر اليمن ومدينة صعدة والمسافة إلى هناك خمسون فرسخاً وإذا سار شمالاً بلغ الجار وهي تابعة للحجاز وليس في جدة شجر ولا زرع وكل ما يلزمها يحضرونه إليها من القرى وبينها وبين مكة إثنا عشر فرسخاً وأمير جدة تابع لأمير مكة تاج المعالي بن أبي الفتوح الذي هو أمير المدينة أيضاً وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي من المكس ولم يطلبه وهكذا خرجت من البوابة في سلام وقد كتب إلى مكة يقول عني هذا رجل عالم فلا يجوز إن يؤخذ منه وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر قمت من جدة فبلغت باب مكة يوم الأحد سلخ جمادى الثاني كان قد حضر إلى مكة للعمرة خلق كثيرون من نواحي الحجاز واليمن في أول رجب وهو موسم عظيم مثل عيد رمضان وهم يحضرون وقت الحج ولأن طريقهم قريب وسهل يأتون إلى مكة ثلاث مرات كل سنة. وصف مكة تقع مكة بين جبال عالية ولا ترى من بعيد من أي جانب يقصدها السائر وأقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس وهو مستدير كالقبة لو رمي سهم من أسفله لبلغ قمته وهو شرقي مكة فترى الشمس من داخل المسجد الحرام وهي تشرق من فوقه في شهر دي ديسمبر وقد نصب على قمته برج من الحجر يقال إن إبراهيم عليه السلام رفعه عليه. وتشغل هذه المدينة الوادي الذي بين الجبال والذي لا تزيد مساحته عن رمية سهمين في مثلها والمسجد الحرام وسط هذا الوادي ومن حوله مكة والشوارع والأسواق وحيثما وجدت ثغرة بين الجبال سدت بسور قوي وضعت عليه بوابة وليس بمكة شجر أبداً إلا عند باب الغربي للمسجد الحرام المسمى باب إبراهيم حيث يوجد كثير من الشجر الكبير الذي يرتفع على حافة البئر. وعند الجانب الشرقي للمسجد سوق تمتد من الجنوب إلى الشمال وفي أولها ناحية الجنوب جبل أبي قبيس الذي تقع الصفا على سفحه وتبدو على هذا السفح درجات كبيرة من الحجارة المستوية التي يصعد الحجاج عليها ويدعون ربهم والمروة في نهاية السوق شمالي الجبل وهي أقل ارتفاعاً في وسط مكة وقد شيدت عليها منازل كثيرة وما يسمى السعي بين الصفا والمروة هو المسعى في هذه السوق من أولها لآخرها ويجد من يرغب العمرة وهو آت من بعيد أبراجاً ومساجد على مسافة نصف فرسخ حول مكة فيحرم منها للعمرة والإحرام هو نزع الملابس المخيطة من على الجسد وشد المحرم وسطه بإزار ولف جسده بإزار أو وشاح آخر وصياحه بصوت عال إن لبيك اللهم لبيك ثم يسير نحو مكة فإذا أراد حاج إن يعتمر وهو بمكة فإنه يذهب إلى تلك الأبراج ويرتدي ثوب الإحرام ويهتف لبيك ويدخل مكة بنية العمرة فحين يبلغ مكة يدخل المسجد الحرام ويسير نحو الكعبة ثم يطوف ناحية اليمين بحيث تكون هذه على يساره ويتوجه إلى الركن الذي به الحجر الأسود فيقبله ثم يمضي ويستمر في الطواف حتى يعود إلى الحجر الأسود مرة أخرى فيقبله وبهذا يكون قد أتم طوفة واحدة وعلى هذا النحو يطوف سبع مرات ثلاثاً منها بسرعة وأربعاً على مهل وبعد إتمام الطواف يتوجه نحو مقام إبراهيم عليه السلام وهو أمام الكعبة فيقف خلفه بحيث يكون المقام بينه وبين الكعبة وهناك يصلي ركعتين هما صلاة الطواف ثم يذهب إلى حيث بئر زمزم فيشرب من مائها أو يمسح بها وجهه ثم يخرج من المسجد الحرام من باب الصفا الذي سمي كذلك لأن جبل الصفا يقع خارجه فيصعد على عتبات الصفا موليا وجهه شطر مكة ويدعو بالدعاء المعلوم ثم ينزل ويتجه ناحية المروة ماراً بالسوق التي يسير فيها من الجنوب إلى الشمال وعليه إن ينظر إلى أبواب الحرام حين يمر بها وإن يحث الخطى في المسافة التي سعاها الرسول عليه الصلاة والسلام مسرعاً والتي أمر الناس باجتيازها مسرعين وهي خمسون خطوة وعلى طرفي هذا الموضع الذي يسار فيه بسرعة أربع منارات على الجانبين فإذا بلغ الحاج الآتي من الصفا ما بين المنارتين الأوليين أسرع حتى يصل إلى ما بين المنارتين الثانيتين ثم يسير الهوينى حتى يبلغ المروة فيصعد عتباتها ويدعو ذلك الدعاء المعلوم وهكذا يكرر هذا السعي في السوق بحيث يسعى من الصفا إلى المروة أربع مرات ومن المروة إلى الصفا ثلاث مرات فيكون قد سعى في هذه السوق سبع مرات. وعندما ينزل الحاج من جبل المروة يجد سوقاً فيها عشرون دكانا متقابلة يشغلها جميعا حجامون لحلق شعر الرأس وحين يتم الحاج شعائر العمرة ويخرج من المسجد الحرام يدخل السوق الكبيرة التي تقع ناحية الشرق والمسماة سوق العطارين وهي سوق جميلة البنايات وكلها عطارون وبمكة حمامان بلاطهما من الحجر الأخضر السنان وقدرت إن سكانها القاطنين بها لا يزيدون على ألفين والباقي ويقربون من الخمسمائة من الغرباء والمجاورين وفي ذلك الوقت كان بمكة قحط فكان الستة عشر منا من القمح بدينار مغربي وقد هاجر منها كثيرون. وقد كان لأهالي كل مدينة من خراسان وما وراء النهر والعراق وغيرها منازل بمكة ولكن أغلبها كان خرابا وقتذاك وقد بنى بها خلفاء بغداد عمارات كثيرة وأبنية جميلة كان بعضها وأنا هناك خربا والبعض الآخر اشتراه الناس أصبح ملكاً خاصاً وماء آبار مكة مالح ومر لا يساغ شربه ولكن بها كثيرا من الأحواض والمصانع الكبيرة بلغت تكاليف الواحد منها أكثر من عشرة آلاف دينار وهي تملأ من ماء الأمطار الذي يتدفق من الأودية وكانت فارغة ونحن هناك. وقد أنشأ ابن أحد أمراء عدن مجرى للماء تحت الأرض وأنفق عليه أموالا كثيرة يسقى منه ما على حافتيه من شجر في عرفات وقد حبس هذا الماء هناك حيث غرست الحدائق فلا يصل قرب مكة منه إلا القليل لأن القناة لا تبلغها وهذا القليل يجمع في حوض خارج مكة فيأخذ منه السقاءون ويذهبون به إليها ويبيعونه . وعلى مسافة نصف فرسخ من طريق برقة بئر يسمى بئر الزاهد عنده مسجد جميل وماء هذا البئر عذب ويحمله السقاءون إلى مكة لبيعه وجو مكة حار جدا وفي آخر بهن القديم يناير فبراير رأيت بها الخيار والأترنج والباذنجإن وكانت كلها طازجة. هذه هي المرة الرابعة التي أزور بها مكة وقد مكثت بها مجاوراً من غرة رجب نوفمبر إلى العشرين من ذي الحجة 3 مايو وقد أثمر بها العنب في الخامس عشر من فروردين مارس -أبريل فأحضر من السواد إلى مكة وبيع في السوق كان البطيخ كثيراً في أول اردبهشت إبريل مايو وكانت الفاكهة متوفرة طول الشتاء فلم تنقطع قط. وصف اليمن وحين يسير المسافر مرحلة واحدة جنوبي مكة يبلغ ولاية اليمن التي تمتد حتى شاطئ البحر والحجاز واليمن متجاوران ولغتهما العربية وفي الاصطلاح يقال لليمن حمير وللحجاز العرب ويحيط البحر البلدين من ثلاث جهات فهما شبه جزيرة يحدها شرقاً بحر البصرة وغرباً بحر القلزم الذي تقدم أنه خليج وجنوبا البحر المحيط وطول شبه الجزيرة هذه التي هي اليمن والحجاز من الكوفة إلى عدن أي من الشمال إلى الجنوب خمسمائة فرسخ. وعرضها من عمان إلى الجار أي من الشرق إلى الغرب أربعمائة فرسخ وبلاد العرب من الكوفة إلى مكة وبلاد اليمن من مكة إلى عدن. وبلاد العرب قليلة الخصب ويسكن أهلها الصحراء ويملكون الدواب والمواشي ويقيمون في الخيام. وبلاد حمير اليمن ثلاثة أقسام قسم منها يسمى تهامة وهو يمتد على ساحل القلزم الذي هو غربي تهامة وبه كثير من المدن والخصب مثل صعدة وزبيد وصنعاء وغيرها وهذه المدن مشيدة في الصحراء وأمير هذا القسم عبد حبشي من أبناء شاددل. والقسم الثاني من حمير جبلي يسمى نجدا وبه أماكن مقفرة وأخرى شديدة البرد كما إن به أودية ضيقة وقلاعا محكمة . والقسم الثالث ناحية المشرق وبه مدن كثيرة منها نجران وعثر وبيشة وغيرها وبهذا القسم طوائف كثيرة لكل منها ملك أو رئيس فليس له حاكم واحد فإن سكانه عتاة وأغلبهم لصوص وسفاكو دماء وهم كثيرون ومن كل جنس ومساحة هذا القسم مائتا فرسخ في مائة وخمسين. وفي اليمن قصر غمدان بمدينة اسمها صنعاء وقد بقي من أطلال كالتل في وسطها ويقال هناك إن رب هذا القصر كان ملكا على العالم كله كما يقال إن بهذا التل كنوزا ودفائن كثيرة ولكن أحداً لا يجرؤ على مد يده إليها سلطانا كان أو من الرعية ويصنعون بصنعاء العقيق وهو حجارة تقطع من الجبل وتسوى على النار في بواتق محاطة بالرمل ثم تعرض هكذا وسط الرمل لحرارة الشمس وبعد هذا يصقلونها بعجلة وقد رأيت في مصر سيفا أحضر للسلطان من اليمن مقبضه قطعة واحدة من العقيق الأحمر كأنه ياقوت.
سفر نامه تأليف : ناصر خسرو منتدى توتة وحدوتة - البوابة