بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة العلمية
المناظر لابن الهيثم
المقالة الأولى
كيفية الإبصار بالجملة
نهاية الفصل الثالث والفصل الرابع والفصل الخامس
● [ نهاية الفصل الثالث ] ●
البحث عن خواص الأضواء
وعن كيفية إشراق الأضواء
فأقول إن هذه الصور التي تظهر على الأجسام المقابلة للجسم المتلون المضيء ليس يدركها البصر بالانعكاس وإنما يدركها البصر كما يدرك الألوان في سطوح الأجسام المتلونة، وإن هذه الصور هي في المواضع التي يدركها البصر فيها: وذلك أن هذه الصور إذا ظهرت للبصر على الجسم المقابل للجسم المتلون، وكان سطح الجسم الذي تظهر عليه الصورة سطحاً مستوياً، ثم انتقل البصر عن موضعه إلى جميع الجهات المقابلة لذلك السطح، فإنه يدرك الصورة من جميع الجهات في ذلك السطح وعلى هيئتها. وإذا كان الجسم المتلون ساكناً، والجسم المقابل له الذي تظهر عليه الصورة ساكناً، وكان السطح الذي تظهر عليه الصورة مستوياً، فإن انعكاس صورة الجسم المتلون عن ذلك السطح المستوي إنما يكون إلى جهة واحدة مخصوصة فقط، لا إلى جميع الجهات المقابلة لذلك السطح وتنعكس عنه أو كان شعاع يخرج من البصر إلى ذلك السطح وينعكس عنه إلى الجسم المتلون، لأن الانعكاس ليس يكون إلا على زوايا متساوية وإلى جهة مخصوصة. وسنبين ذلك عند كلامنا في الانعكاس.
فإذا كان البصر يدرك هذه الصور من جميع الجهات المقابلة للسطح الذي فيه اللون مع سكون هذا السطح وسكون الجسم المتلون فليس إدراك البصر لصورة اللون في السطح الذي تظهر فيه صورة اللون بالانعكاس، وإنما يدركها البصر كما يدرك الألوان في سطوح الأجسام المتلونة.
وأيضاً فإنه إن أخذ المعتبر إناءً من الزجاج الرقيق المشف الأبيض النقي، وجعل فيه شراباً أحمر صافي اللون، وقابل به ضوء الشمس في البيت الذي وصفناه، فإن اعتبار هذه الألوان في المواضع القليلة الضوء يكون أبين. وإن كان الثقب الذي يدخل منه الضوء إلى البيت ضيقاً في اعتبار الجسام المشفة أو ضيق كان أجود، بعد أن لا يكون في غاية الضيق، ثم يجعل في ظل الإناء ثوباُ أبيض، فإنه يجد لون الشراب على ذلك الثوب مع الضوء النافذ في شفيف الزجاج وشفيف ذلك الشراب وممازجاً له، ويجد اللون الذي يظهر على الثوب أرق من لون الشراب وأصفى منه. وإذا بعد الثوب عن الإناء ازداد اللون الذي يظهر عليه رقة وضعفاً.
وكذلك إن جعل في الإناء بدل الشراب ماء متلون أزرق أو أخضر أو غير ذلك من الألوان المشرقة الصافية التي لا تبطل شفيف الماء بالكلية ويمكن أن ينفذ فيها الضوء، ثم اعتبر على الصفحة التي قدمناها، وجد لون ذلك الماء ممتداً مع الضوء النافذ في شفيفه وممازجاً له.
وكذلك إن قرب هذا الإناء الذي فيه الشراب أو الماء الملون إلى ضوء النار في الليل، وقرب إليه من ورائه ثوب أبيض، فإن لون الشراب يظهر على الثوب مع ضوء النار النافذ فيه. وينبغي أن يتحرى المعتبر عند اعتبار ذلك أن لا يشرق على الثوب ضوء قوي من جهة أخرى ، بل يكون في ظل رقيق الضوء.
فيتبين من هذا الاعتبار أن اللون الذي في الأجسام المشفة أيضاً يمتد مع الأضواء النافذة فيه في الهواء المتصل به.
فجميع الأجسام المتلونة الكثيفة والمشفة إذا كان لونها قوياً واعتبرت على الوجه الذي بيناه فإن ألوانها توجد أبداً ممتدة مع الأضواء التي تصدر عنها وممازجة لها. وإذا كان ذلك يوجد أبداً عند الاعتبار ومطرداً في جميع الألوان فهو خاصة طبيعية تخص الألوان. وإذا كان ذلك طبيعياً للألوان فهو يلزم في جميع الألوان قويها وضعيفها. وإذا كانت الألوان تصحب الأضواء وتمتد بامتدادها فهي تصحب جميع الأضواء قويها وضعيفها قليلها وكثيرها. وإن لم يظهر ضعيفها للبصر فلقصور قوة الحس عن إدراك المعاني اللطيفة.
وقد يحتمل أن يكون الهواء والأجسام المشفة تقبل صور الألوان كما تقبل صور الأضواء حضر الضوء معها أم لم يحضر، وتكون الألوان تشرق من جميع الأجسام المتلونة وتمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة في جميع الجهات كما تشرق الأضواء، وتكون خاصتها كخاصة الأضواء، ويكون امتدادها في الهواء وفي الأجسام المشفة وانبساطها فيها دائماً حضر الضوء معها أو لم يحضر، ويكون ليس يظهر منها للبصر إلا ما كان مصاحباً للضوء لأن البصر ليس يدرك شيئاً إلا إذا كان مضيئاً.
ويحتمل أن تكون الألوان ليس يصدر عنها هذه الصور ولا تمتد في الهواء ولا يقبلها الهواء إلا بعد إشراق الضوء عليها.
إلا أن الذي ليس يتداخله الشك ولا يقع فيه ريب هو أن صورة اللون وصورة الضوء يصدران معاً عن الأجسام المضيئة المتلونة ويمتدان في الهواء وفي الأجسام المتلونة والمقابلة لها، ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وينفذان فيها على جميع السموت المستقيمة التي تمتد من تلك الأجسام المتلونة في ذلك الهواء وفي تلك الأجسام المشفة.
وقد اعتقد قوم أن اللون لا حقيقة له وأنه شيء يعرض بين البصر والضوء كما تعرض التقازيح وليس اللون صورة في الجسم المتلون. وليس الأمر على ما يعتقد أصحاب هذا الرأي. وذلك أن التقازيح إنما تكون بالانعكاس، والانعكاس ليس يكون إلا من وضع مخصوص وليس يكون من جميع الأوضاع، والتقازيح التي تظهر في أرياش بعض الحيوانات إنما هي انعكاس الأضواء عن سطوح أرياش تلك الحيوانات، ولذلك تختلف صورها بحسب اختلاف الأضواء، وهذه الحيوانات إذا ظهر في أرياشها ثم تغيرت أوضاعها من البصر أو تغير وضع البصر منها اختلفت صور التقازيح التي تظهر فيها عند البصر، واختلفت المواضع من أرياشها التي تظهر فيها ألوان التقازيح. وإذا أنعم المعتبر النظر واستقصى التأمل للتقازيح التي تظهر في أرياش الحيوانات، وتلطف في تأملها، وجد كل لون من هذه التقازيح يتغير موضعه من الجسم الذي يظهر عليه عند تغير وضع ذلك الجسم من البصر، أعني الجزء من الريش الذي يظهر فيه اللون من التقازيح، وربما تغيرت كيفية اللون أيضاً عند تغير الموضع . ومع ذلك فإن هذه الحيوانات إذا حصلت في المواضع المغدرة والضعيفة الضوء لم يظهر فيها تلك التقازيح وظهرت ألوانها الأصلية.وليس كذلك الألوان التي في الأجسام المتلونة، لأن الجسم المتلون يدركه البصر من جميع الأوضاع في الوقت الواحد على صورة واحدة. وإن اختلف الذي يظهر على الجسم المتلون باختلاف أوضاع البصر منه من أجل انعكاس الأضواء فإنما يختلف لون ذلك الجسم المتلون باختلاف أوضاع البصر في القوة والضعف فقط، فأما مائية اللون فليس تختلف عند البصر باختلاف الوضع. فليس إدراك البصر للألوان التي يدركها في الأجسام الكثيفة المتلونة بالانعكاس، فليس هذه الألوان كالتقازيح.
ومما يظهر ظهوراً بيناً أن الألوان لها حقيقة وهي صورة في الجسم المتلون وليست شيئاً يعرض البصر والضوء ما يظهر في وجه الإنسان من حمرة الخجل وصفرة الوجل. فإن الإنسان قد يكون ساكن اللون وليس في وجهه حمرة مفرطة، فإذا عرض له الخجل ظهرت في وجهه حمرة لم تكن قبل ذلك، حتى يستدل من حمرة وجهه على خجله . فالناظر يراه في الحالتين قد أدرك في وجهه في الحالة الثانية حمرة لم تكن في وجهه في الحالة الأولى، والضوء الذي على ذلك الوجه قبل الخجل وبعده ضوء واحد، ووضع البصر في الحالتين من ذلك الوجه وضع واحد، وبعده منه بعد واحد، ووضع الوجه أيضاً من الجهة التي منها يرد الضوء إلى الوجه ومن الوجه المضيء الذي منه يرد الضوء والمواضع المضيئة التي منها يرد الضوء إلى ذلك الوجه وضع واحد لم يتغير، وليس للحمرة التي تظهر في الوجه عند الخجل علة غير الخجل، وليس الخجل أمراً من خارج ولا يتعلق بالضوء ولا بالبصر الناظر إلى ذلك الوجه، فالحمرة التي تظهر في وجه الإنسان هي صورة في جسمه لا شيء يعرض بين البصر الناظر إليه وبين الضوء.
وكذلك الرجل قد يكون ساكن اللون قبل الوجل، فإذا بلغه أمر يفزعه ووجل منه وجلاً شديداً ظهرت في لونه صفرة بينة لم تكن قبل الوجل.
فاحمرار الخجل واصفرار الوجل مع تساوي أحوال البصر والمبصر قبل الخجل وبعده وقبل الوجل وبعده في الوضع والبعد والضوء دليل ظاهر على أن اللون صورة في الجسم المتلون وليس هو شيئاً يعرض بين البصر والضوء.فليس اللون على ما أعتقد من رأى اللون لا حقيقة له، وليس هو إلا صورة في الجسم المتلون. وقد يحتمل أن تختلف الآراء ويقع الالتباس في مائية صورة اللون التي في الجسم المتلون، فأما أنيتها وأنها صورة في الجسم لا صورة تعرض من خارج فليس يقع فيه لبس.
وكذلك قد يحتمل أن يكون البصر ليس يدرك حقيقة اللون على ما هي عليه من أجل انه ليس يدرك اللون إلا مع الضوء ومن أجل اختلاف إدراكه للون بحسب اختلاف الأضواء التي تشرق على الجسم المتلون، فأما إن اللون له في نفسه حقيقة فليس يبطل من اجل إدراك البصر له.
وإذ قد تبين ذلك فإننا نقول إن الصورة التي تظهر على الجسم المقابل للجسم المتلون ليس هي شيئاً يعرض بين البصر والضوء ولا بين البصر واللون وإنما هي صورة اللون الذي في الجسم المتلون ممتدة من الجسم المتلون إلى ذلك الجسم المقابل له، وليس امتدادها إلى ذلك الجسم وإلى الجهات المقابلة للجسم المتلون بتوسط البصر ولا من أجل حضور البصر، ولا حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر. ولا حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر. وذلك انه قد تبين أن هذه الصور ليس توجد إلا مع الضوء الذي يصدر من الجسم المتلون وممازجة له، وأن هذه الصورة توجد في جميع الجهات التي يشرق عليها ضوء ذلك الجسم، والضوء ليس يشرق من الجسم، ولا من أجل حضور البصر، بل إنما يشرق إشراقاً طبيعياً. وإذا كان الضوء ليس يمتد إلى جميع الجهات المقابلة له من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر، وكانت صورة اللون الذي في الجسم المتلون توجد أبداً ممازجة للضوء الذي يشرق من ذلك الجسم وتوجد في جميع الجهات التي يمتد عليها ذلك الضوء، فليس امتداد صورة اللون إلى جميع الجهات المقابلة للجسم المتلون من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر.
وأيضاً فإنه قد تبين ان البصر يدرك هذه الصور على الجسم المقابل للجسم المتلون بالانعكاس. وقد تبين أن اللون الذي في الجسم المتلون هو صورة في الجسم المتلون لا شيء يعرض من أجل البصر.
وإذا كان اللون صورة في الجسم المتلون، وليس لون الجسم المتلون من أجل البصر ولا بتوسط البصر، وكانت صورة هذا اللون تمتد إلى الجهات المقابلة للجسم المتلون لا من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر، وكان البصر يدرك هذه الصورة على الجسم المقابل للجسم المتلون لا بالانعكاس بل كما يدرك الألوان في الأجسام المتلونة، فصورة اللون إذن التي يدركها البصر على الجسم المقابل للجسم المتلون هي صورة في سطح الجسم المقابل للجسم المتلون هي صورة في سطح الجسم المقابل للجسم المتلون لا شيء يعرض بين البصر والضوء ولا بين البصر واللون، وليس حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر.وإذا كان جميع ذلك كذلك فإن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة الضوء واللون اللذين فيه تكون أبداً ممتدة في جميع الجهات المقابلة لذلك الجسم في الهواء والأجسام المشفة المتصلة بذلك الجسم والمقابلة له ومشرقة على جميع الأجسام المقابلة لذلك الجسم حضر البصر أم لم يحضر.
وأيضاً فإنه قد تبين أن صورة الضوء تمتد من كل نقطة من سطح الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة. وإذا كان الضوء يمتد من كل نقطة من سطح الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة، وكانت الألوان تصحب أبداً الأضواء، وكان اللون والضوء يصدران معاً وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفة على جميع السموت المستقيمة التي تمتد من تلك الأجسام، فصورة اللون أيضاً تمتد من كل نقطة من سطح الجسم المتلون المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة.
فكل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن كل نقطة من سطحه يمتد منها صورة الضوء وصورة اللون اللذين فيها على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الهواء والأجسام المشفة المتصلة بتلك النقطة والمقابلة لها، وتشرق على كل جسم مقابل لتلك النقطة، وتكون أبداً ممتدة في جميع الجهات، وتشرق على الأجسام المقابلة لها ما دامت مضيئة والأجسام المتصلة بها مشفة ومتصلة الشفيف حضر البصر أم لم يحضر.
فأما لم ليس تظهر هذه الصورة على جميع المقابلة للأجسام المتلونة وتظهر على الأجسام المقابلة البيض والمسفرة الألوان، ولم ليس يظهر على الجسم الأبيض لون كل جسم متلون مقابل له ويظهر عليه اللون المشرق القوي، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً
فأما لما ليس تظهر هذه الصورة على جميع الأجسام المقابلة الأجسام المتلونة وتظهر على الأجسام البيض والمسفرة الألوان، ولم ليس يظهر على الجسم الأبيض لون كل جسم متلون مقابل له ويظهر عليه اللون المشرق القوي، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً ويظهر إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياَ، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الجسم الأبيض في ضوء الشمس وفي ضوء قوي ويظهر عليه إذا كان الجسم الأبيض في الظل وفي الأضواء الضعيفة، فإن جميع ذلك لعلة تخص البصر، لا أن صور الألوان تشرق على جميع الأجسام المقابلة لها. ونحن نشرح هذا المعنى من بعد ونبينه بياناً مستقصىً ونبين علله ونوضحها عند كلامنا في كيفية الأبصار. فهذا الذي بيناه من خواص الأضواء وما يصحب الأضواء ويقترن بها من صور الألوان كاف فيما نشرع فيه من البحث عن كيفية الإبصار.
● [ الفصل الرابع ] ●
فيما يعرض بين البصر والضوء
فيما يعرض بين البصر والضوء