من طرف صبايا الإثنين أكتوبر 11, 2021 6:29 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ بَابُ ضرورةِ الشَّاعرِ ] ●
ضرورةُ الشاعرِ أَن يُضطرَّ الوزنُ إلى حذفٍ أَو زيادةٍ أَو تقديمٍ أَوْ تَأْخيرٍ في غير موضعهِ وأبدالِ حرفٍ أَو تغييرِ إعرابٍ عَنْ وجههِ علَى التأويلِ أَو تأنيثِ مُذكرٍ علَى التأويلِ وليسَ للشاعِر أَنْ يحذفَ ما اتفقَ لَهُ ولا أَنْ يزيدَ ما شَاءَ بَلْ لذلكَ أُصولٌ يعملُ عليها فمنها ما يحسنُ أَنْ يستعملَ ويُقاس عَليهِ ومنها ما جاءَ كالشاذِّ ولكنَّ الشاعرَ إذَا فَعَلَ ذلكَ فلا بُدَّ مِنْ أَن يكونَ قَدْ ضارعَ شيئاً بِشيءٍ ولكنَّ التشبيهَ يخلتفُ فمنهُ قَريبٌ ومنهُ بَعيدٌ
● [ ذِكرُ الذي يحسنُ مِنْ ذلكَ ويقاسُ عَليهِ ] ●
اعلَمْ : أَنَّ أَحسنَ ذلكَ ما رُدَّ فيهِ الكلامُ إلى أَصلِه وهوَ في جميعِ ذلك لا يخلُو مِنْ زيادةٍ أَو حذفٍ فالزيادةُ صَرفُ ما لا ينصرفُ وإظهارُ التضعيفِ وتصحيحُ المعتلِّ ويتبعهُ في الحُسنِ تحريكُ الساكنِ في القافيةِ بحركةِ ما قَبلهُ فإنْ كانَ في حشوِ البيتِ فهو عندي أَبعدُ وقطعُ أَلفِ الوصلِ في أنصافِ البُيوتِ
وأَمَّا الحذفُ : فَقَصْرُ الممدودِ وتخفيفِ المشدد في القوافي فَأَمَّا ما لا يجوزُ للشاعرِ في ضرورتِهِ فَلا يجوزُ لَهُ أَنْ يلحنَ لتسويةِ قافيةٍ ولاَ لإِقامةِ وزنٍ بأَنْ يُحركَ مجزوماً أَوْ يسكنَ معرباً وليسَ لَهُ أَنْ يُخرجَ شيئاً عَنْ لفظِه إلاَّ أَنْ يكونَ يخرجهُ إلى أَصلٍ قَد كانَ لَهُ فيردهُ إليهِ لأَنَّهُ كانَ حقيقُتُه وإنَّما أَخرجَهُ عن قياسٍ لزمَهُ أَو اطرادٍ استمرَّ بهِ أَو استخفافٍ لِعلّةٍ واقعةٍ
الأَولُ مِنَ الضربِ : الأول
وهوَ صرفُ ما لا ينصرفُ للشاعرِ أَنْ يصرفَ في الشِّعرِ جميعَ ما لا ينصرفُ وذلكَ أَنَّ أَصلَ الأسماءِ كلِّها الصرفُ وذلكَ قولُهم في الشعرِ : مَررتُ بأَحمرٍ ورأيتُ أَحمراً ومررتُ بمساجدٍ يا فَتى كما قَالَ النابغة :
( فَلْتَاْتِيَنْكَ قَصائدٌ وَلْيَرْكَبنْ ... جَيْشٌ إليكَ قوادمَ الأَكوَارِ )
فقالَ قومٌ : كُلُّ شَيءٍ مما لا ينصرفُ مصروفٌ في الشعرِ إلاَّ أَفعلَ ( الذي معهُ مِنْ كذَا نحو : هَذا أَفعلُ مِنكَ ورأيتُ أَكرمَ مِنْكَ وذهبوا إلى أَنَّ ( مِنْكَ ) يقومُ مقامَ المضافِ إليهِ وهذَا مِنْهم خَطأٌ وإنَّما مُنعَ الصرفُ لأَنَّهُ ( أَفعلُ ) وتَمَّ ( بِمنْكَ ) نعتاً فَصارَ كأَحمَر أَلاَ ترىَ أَنَّكَ تقولُ : مررتُ بخير منكَ وشرٍّ مِنْكَ فمنكَ على حالِها وصرفتَ خيراً وشراً ) لأَنَّه قد نَقصَ عَنْ وزنِ ( أَفعلَ ) وقال قومٌ : يجوزُ في الشعرِ تركُ صرفِ ما ينصرفُ
قالَ محمد بن يزيد : وهذَا خَطأٌ عظيمٌ لأَنَّهُ ليسَ بأَصلٍ للأسماءِ أن لا تنصرفَ فتردٌّ ذلكَ إلى أَصلهِ قالَ : ومِمّا يحتجونَ بهِ قولُ العباسِ بن مرداس :
( أَتجْعَلُ نهبي ونَهبَ العُبيدِ بَيْنَ عُيَينَةَ والأَقرعِ ... )
( وما كانَ حِصْنٌ ولاَ حَابسٌ ... يًفُوقانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَعِ )
وإنَّما الروايةُ الصحيحةُ ( يفوقانِ شيخيَ في مَجْمَعِ ) ومِنْ ذلكَ روايتهُم في هذَا البيت لذي الأصبعِ العدواني :
( ومَمِنْ وَلَدوا عَامرُ ذو الطُّولِ وذو العَرْضِ ... )
وإنَّمَا عامرُ اسمُ قبيلةٍ فيحتجونَ بقولِهِ ( وذو الطولِ ) ولم يقلْ ( ذَاتِ ) فإنَّما ردَّهُ للضرورةِ إلى ( الحَيِّ ) كَما قَالَ :
( قَامتْ تُبَكيّهِ عَلَى قَبْرِهِ ... مَنْ لِي مِنْ بَعدِكَ يَا عَامرُ )
( تَرَكْتَنِي في الدَّارِ ذَا غُربَةٍ ... قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ ناصرُ )
فإنَّما أرادَ للضرورة إنساناً ذا غربةٍ فهذَا نظيرُ ذلكَ وهذَا الذي ذكرَ أبو العباس كمَا قالَ : إنَّهُ القياسُ أَنْ يُردَّ للضرورةِ الشيءُ إلى أَصلِه ولكنْ لو صحتِ الرواية في تَركِ صرفِ ما ينصرفُ في الشعر لما كانَ حذفُ التنوينِ بأَبعدَ من حذفِ الواوِ في قوله : فَبنَياهُ يَشْرِي رَحلَهُ . . لأَنَّ التنوينَ زَائدٌ ولأَنَّه قد يحذفُ في الوقفِ والواوُ في ( هُوَ ) غيرُ زائدةٍ فلا يجوزُ حذفُها في الوقفِ كلاهُما رَديءٌ حذفُهما في القياسِ
قالَ أَبو العباس : فأَمَّا قَولُ ابن الرقياتِ :
( ومَصْعَبُ حينَ جَدَّ الأمرُ أَكثرُها وأَطَيبُها ... )
فزعَم الأصمعي : أَنَّ ابنَ الرقياتِ ليس بحجةٍ وأنَّ الحضريةَ أَفسدتْ عَلَيْه لغتَهُ قالَ : ومَنْ روى هذَا الشعرَ مِمَّنْ يفهمُ الإِعرابَ ويتبعُ الصوابَ ينشدُ :
( وأَنتمُ حينَ جَدَّ الأمرُ أكثرُها وأطيبُها ... )
قالَ : ومِنَ الشعراءِ الموثوقِ بهم في لغاتِهم كثيرٌ مِمَّنْ قد أَخطأَ لأَنَّهُ وإنْ كانَ فصيحاً فَقَدْ يجوزْ عليهِ الوهلُ والزللُ مِنْ ذلكَ قولُ ذي الرّمةِ :
( وقَفْنَا فقلنا إيهِ عَنْ أُم سَالمٍ ... ومَا بالُ تكليمِ الدّيارِ البلاقعِ )
وهذَا لا يعرفُ إلاّ منوناً في شيءٍ من اللُغاتِ وقَولُه :
( حَتَى إذَا دَوَمتْ في الأرضِ رَاجَعهُ ... كِبْرٌ وَلَو شَاءَ نَجّى نَفْسَهُ الهَرَبُ )
إنَّما يقالُ : دَوّى في الأرضِ ودَوّمَ في السَّماءِ كمَا قالَ :
( والشَّمْسُ حَيْرَى لَها في الجَوِّ تدويمُ ... )
فأمَّا ما يضطرُ إليه الشاعرُ ممنْ ينونُ الإسمَ المفردَ في النداءِ فَقد ذكرناهُ في النداءِ
الثاني مِنَ الضربِ الأَولِ :
وَهوَ إظهارُ التضعيفِ وَهوَ زيادةُ حركةٍ إلاَّ أَنَّها حركةٌ مقدرةٌ في الأصلِ يجوزُ في الشعرِ ولا يجوزُ في غيرِه تضعيفُ المدغمِ فيقولُ في ( رَدَّ ) : رَدَدَ لأَنَّهُ الأَصلُ ويقولُ في ( رَادٍّ ) : هذَا رَادِدٌ وفي ( أَصمّ ) أَصمم فاعلم
قالَ مَعْنَبُ بن أُم صَاحبٍ :
( مَهْلاً أَعَاذِلَ قَدْ جَرَّبْتِ مِن خُلُقي ... أَني أَجُودُ لأَقْوَامٍ وإنْ ضَنِنُوا )
يريدُ : ضنّوا وقال : آخرُ :
( الحَمْدُ للهِ العَليِّ الأَجْلَلِ ... )
يريدُ : الأَجَلِّ
وقالَ أبو العباس في قولِهم :
( قَدْ عَلمتْ ذاكَ بناتُ أَلْبُبِهْ ... )
يريدُ : بناتِ أَعقلِ هذَا الحي
وقال : ولا أُجيزُ هَذَا إلاَّ في الشعر كقولِكَ : ( ضَنِنُوا )
فأَمَّا في الكلامِ فلاَ يجوزُ إلاّ بَناتُ أَلبَّهْ
الثالثُ مِنَ الضربِ الأول :
وهوَ تصحيحُ المعتلِّ يجوزُ في الشعرِ وَلا يصلحُ في الكلامِ تحريكُ الياءاتِ المعتلةِ في الرفعِ والجرِّ للضرورة نحو قولِكَ في الشِّعر : هَذا قاضيٌ ومررتُ بقَاضيٍ لأَنَّهُ الأصلُ مِنْ ذلكَ قولُ ابن الرقياتِ :
( لاَ بَاركَ اللَّهُ في الغَوَانيِ هَلْ ... يُصْبِحْنَ إِلاّ لَهُنَّ مُطَّلَبُ )
وقال جرير :
( فَيِوماً يُجَازينَ الهَوى غَيْرَ مَاضِيٍ ... ويَوماً ترَى مِنْهنَّ غُوْلاً تَغَوَّلُ )
فهذِه الياءُ حكمُها على هَذا الشَرطِ أَن تفتحَ في موضعِ الجَرِّ إِذَا وقعتْ في اسم لا يَنصرفُ كما ترفعُ في موضِع الرفعِ فإِنْ اضطرَّ شَاعِرٌ إلى صَرفِ ما لا ينصرفُ حرّكها في موضعِ الجَر بالكسرِ ونَوَّنَها كما يَفعلُ في غيرِ المعتلِّ فأَجراها في جميعِ الأشياءِ مَجرى غير المعتلِّ وكذلكَ حكمُها في الأَفعالِ أَنْ ترفعَ في الياءِ والواوِ فتقولُ : زيدٌ يرميُكَ ويغزُوكَ كَما قالَ :
( أَلَمْ يَأْتِيْكَ والأَنباءُ تَنمِي ... بَمَا لاقَتْ لَبُونُ بني زِيَادِ )
هَذا جَزَمهُ مِنْ قولِه : ( هُوَ يَأَتيُكَ ) وأَمَّا الأَسماءُ فقولُه :
( قَدْ عَجِبَتْ مِني ومِنْ يُعَيْلِيَا ... لمَّا رأَتنْي خَلَقَاً مُقْلَوْلِياَ )
ففتحَ ( يُعيلى ) لأَنَّهُ لا ينصرفُ ولم يلحقهُ التنوينَ لأَنَّهُ جعلَهُ بمنزلةِ غيرِ المعتلِّ ومثلُ ذلكَ قولُه :
( أَبِيتُ عَلَى مَعَارِيَ فَاخِرَاتٍ ... بِهنَّ ملُوَّبٌ كَدَمِ العِبَاطِ )
فَهذَا لو أسكنَ فَقالَ : مَعَارٍ فَاخراتٍ لَمْ ينكسرِ الشعرُ ولكنْ فَرَّ مِنَ الزحافِ ومثلُ ذلكَ:
( فَلَو كانَ عبدُ اللهِ مَوْلىً هَجَوتُهُ ... ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَوَاليا )
وأمَّا قولُ القائلِ :
( سَمَاءُ الإِلهِ فَوقَ سَبعٍ سَمَائِيَاَ . . ... . )
ففيهِ ثلاثةُ أشياءٍ
مِنْها أَنَّهُ جمَع ( سَماءً ) علَى ( فَعَائل ) كَما تجمعُ سحابةٌ علَى سَحائب وكانَ حَقُّ ذلكَ أَنْ يقولَ : سَمَايا فَبَلَغَ بِهِ الأَصل فقالَ : سَمَاءٌ ثم فَتَحَ فَجَعَلَهُ بمنزلةِ الصحيحِ
فقالَ سَمَايَ يا فَتى في موضعِ الجرِّ كما تقولُ سمعتُ برسَائلَ يا فَتى فردَّ ( سَمَايَا ) إلى الأصلِ مِنْ جهات رَدِّ الألفِ التي هيِ طرفٌ ( سَمَايَا ) إلى الياءِ فصارتْ ( سَمَايَ ) ثُمَّ رَدَّ الياءَ الأولى التي تلي الألفَ إلى الهمزةِ فصارتْ ( سَمَايَ ) ثُمَّ أَعربَ الياءَ إعرابَ الصحيحِ فلَمْ يصرفْ والياءُ في مثلِ هَذا الجمع يلحقُها التنوينُ فيقولُ : هؤلاءِ جَوارٍ فاعلَمْ ومررتُ بجوارٍ فاعلَم
ورأيتُ جَواريَ يا هَذا
الرابعُ : مِنَ الضربِ الأَولِ :
مِنَ الزيادةِ وهوَ قطعُ أَلفِ الوصلِ في أنصافِ البيوتِ يجوزُ ابتداءُ الأَنصافِ بأَلفِ الوصلِ لأّنَّ التقديرَ الوقفُ علَى الأنصافِ التي هيَ الصدور ثُمَّ تستأنفُ ما بعدَها فَمِنْ ذلكَ قولُ لَبيدٍ :
( ولاَ يبادرُ في الشِّتَاءِ ولِيدُنا ... أَلقْدَرَ يُنزلُها بِغَيْرِ جِعَالِ )
وقالَ :
( أَو مُذْهَبٌ جُدَدٌ علَى أَلْوَاحِهِ ... أَلنَّاطِقُ المَزْبُورُ والمَخْتُومُ )
وقالَ :
( لا نَسَبَ اليومَ وَلاَ خُلَّةً ... إتَّسَعَ الخَرْقُ علَى الراقِعِ )
ويقبحُ أَنْ يُقَطعَ أَلفُ الوصلِ في حشوِ البيتِ ورُبّما جَاء في الشعرِ وهوَ رَديءٌ
الضربُ الثاني : مِمّا يستحسنُ للشاعرِ إِذَا اضطر أَنْ يحذفَهُ :
الحذفُ نوعان :
الأولُ : قَصْرُ الممدودِ لأَنَّ المدَّ زيادةٌ فإذا اضطر الشاعرُ فقصرَ فَقَدْ رُدَّ الكلامَ إلى أصله وليسَ له أَن يمدَّ المقصورَ كما لم يكنْ لَهُ أَن لا يصرفَ ما ينصرفُ لأَنَّهُ لو فعلَ ذلكَ لأَخرجَ الأَصلَ إلى الفرعِ والأُصولُ ينبغي أَن تكونَ أَغلبَ مِنَ الفروعِ وهوَ في الشعرِ كثيرٌ ولكنْ لا يجوزُ أَن يمُدَّ المقصور
الثاني : تخفيفُ المشددِ في القوافي :
يجوزُ تخفيفُ كُل مشددٍ في قافيةٍ لأَنَّ الذي بقيَ يدلُّ علَى أَنَّهُ قد حُذِفَ منهُ مثلُه لأَنَّ المشدد حرفانِ وإِنّما اقتطعتْهُ القافيةُ لأَنَّ الوزنَ قد تَمَّ فَمنْ ذلكَ قولُه :
( أَصَحَوْتُ اليومَ أَمْ شاقَتْكَ هِرْ ... )
ومثله :
( حتَّى إذَا ما لم أَجدْ غَيرَ الشَّرِي ... كُنْتُ امرأً مِنْ مَالِك بِن جَعْفَرِ )
لا بُدَّ مِنْ تخفيفِ ياءِ الشرى ومثلُ هَذا :
( قَتَلْتُ عِلباءً وهندَ الجَمَلي ... وابناً لصُوحانَ علَى دِيْنِ عَلَي )
وقَدْ ذكَرنا في القوافي ما يجوزُ تحريكُ الساكنِ فيه للقافيةِ فَما يجوزُ في الشعرِ ولا يكونُ في غيرهِ فمنه أَنْ يكونَ الإسمُ على ثلاثةِ أَحرفٍ مسكنِ الأَوسطِ فتحركهُ بالحركةِ التي للحرفِ الأَولِ وذلكَ أَنْ يكونَ علَى ( فِعْلٍ ) أَو ( فَعْلٍ ) أو ( فُعْلٍ ) فتحركُ للضرورة
قالَ زهير :
( ثُمَّ اسْتَمرُّوا وقالوا : إنَّ مشرَبكم ... مَاءٌ بشَرقيّ سَلْمَى فَيْدُ أو رَكَكُ )
وإنّما اسمُ الموضعِ ( رَكَّ ) ومثلُ ذلك قول رؤبة :
( هاجَكَ مِنْ أرْوَى كمنهاضِ الفَكَكْ ... )
وإنّما هوَ ( الفَكُّ ) يقالُ : فَكَّهُ يفكهُ فكّاً وقالَ آخَرُ :
( يَلْعَجُ الجِلَدَا . . ... . )
يريد الجِلْدَ فحركَ اللامَ لإِتباعِ ما قبلَها وقَد فَعَل رؤبةُ ما هو أَشدٌّ مِنْ هَذا قالَ :
( وَلَمْ يضِعْهَا بينَ فِرْكٍ وعَشَقْ ... )
يريدُ : عِشْقٌ فكانَ حكمُ هَذا في الضرورةِ أَنْ يقولَ : عِشْقٌ ولكنَّهُ كَره الجمعَ بينَ كسرتينِ لأَنَّ هذَا عَزيزٌ في الأَسماءِ
فلو قالَ : ( الجلَدُ ) كما قالَ رؤبة لكانَ حسناً كما يفعلونَ بالجمعِ بالتاءِ في غيرِ الضرورةِ فيقولون في المضموم والمكسورِ : ظُلْمةٌ وظُلُماتٌ كِسْرَةٌ وكِسِراتٌ وإنْ شَاءوا فَتحوا لتوالي الكَسراتِ والضَّماتِ
ذِكرُ ما جاءَ كالشاذِّ الذي لا يقاسُ عليهِ :
وهوَ سبعةُ أنواعٍ : زيادةٍ وحذفٍ ووضعِ الكلامِ غيرِ موضعهِ وإبدالِ حرفٍ مكان حرفٍ وتغييرِ وجهِ الإعراب للقافية تشبيهاً بمَا يجوزُ وتأنيثِ المذكرِ على التأويلِ وهوَ زيادةٌ إِلاّ أنّا أفردناها لِمَعناها
الأولُ : الزيادةُ : فَمِنْ ذلكَ أَنْ ينقصَ الوزنُ فيحتاجُ الشاعرُ إِلى تَمامهِ فيشبعُ الحركةَ حتى يصيرَ حرفاً وذلكَ نحو قولِه :
( نَفْيَ الدَراهيمِ تَنْقَادُ الصَّيَاريْفُ ... )
وقالَ محمد بن يزيد : إِنّما نظر إلى هذه الياءاتِ التي تقعُ في هَذا المكانِ في الجمعِ فإِذَا هيَ تقعُ لعللٍ
إمّا أَنْ تكونَ كانتْ في الواحدِ فرجعتْ في الجمع نحو : مِصْباحٍ ومَصَابيحٍ وقِنديلٍ وقَنَاديلٍ وجُرموقٍ وجَرَاميق وإِمَّا وقعتْ لشيءٍ حذفتهُ مِنُ الإسمِ فجعلتَها عوضاً وذلكَ قولُكَ في ( مُنطلقٍ ) : مَطَالقُ حُذفتِ النونُ لزيادتِها شئتَ قلتَ ( مَطَاليقُ ) فجئتَ بالياءِ عوضاً وذلكَ أنَّ الكسرةَ تلزمُ هذَا الموضعَ فوضعتَ العوضَ مِنْ جنسِ الحركةِ اللازمةِ فلمَّا اضطرَّ أَدخلَ هذِه الياءَ تابعةً للحركةِ وإِنْ لم تكنْ للواحدِ وجعلَ الصورةَ بمنزلةِ ما عُوضَ للكسرةِ منهُ وقَد كانَ يستعملُ هَذا في الكلامِ تشبيعاً للكسرةِ في غيرِ موضعِ العوضِ ولا الضرورةِ وذلكَ قولُكَ : دَانقٌ ثُمَّ تقولُ : دَوانيقُ وتقولُ في جمعِ ( خَاتمٍ ) : خَواتيمُ
الثاني : إجراؤهم الوصلَ كالوقفِ :
مِنْ ذلكَ قولُهم في الشعرِ للضرورةِ في نَصبِ ( سَبْسَبٍ وكَلْكَلٍ ) : رأَيتُ سبسبّاً وكَلْكلاً ولا يجوزُ مثلُ هَذا في الكلامِ إِلاّ أن يقولَ : رأيتُ سَبْسَبَّاً وكَلْكَلاً وإِنَّما جازَ هَذا في الضرورةِ لأَنَّك كنتَ تقولُ في الوقفِ في الرفعِ والجرِّ : هَذا سَبْسَبٌّ ومررتُ بسَبْسَبٍّ فتثقلُ لتدلَّ علَى أَنَّهُ متحركُ الآخرِ في الوصلِ لأَنَّكَ إِذا ثقّلتَ لم يحزْ أَنْ يكونَ الحرفُ الآخرُ إلاّ متحركاً لأَنَّهُ لا يلتقي ساكنانِ قلَّما اضطرَ إِليه في الوصلِ أَجراهُ على حالهِ في الوقفِ وكذلكَ فُعلَ بهِ في القوافي المجرورةِ والمرفوعةِ في الوصلِ فَمِنْ ذلكَ قولُه:
( إنْ تَنْجَلِي يَا جُمْلُ أَو تَعْتَلِّي ... أَو تُصْبِحي في الظّاعِنِ المُولَى )
ثُمَّ قالَ :
( ببَازلٍ وِجْنَاءَ أَو عَيْهَلِّ ... )
فثَّقل وقَالَ :
( كأنَّ مَهواهَا على الكَلْكَلِّ ... مَوضعُ كَفَّيِّ رَاهبٍ يُصَلّي )
وقالَ في النصبِ :
( ضَخْمٌ يُحبُّ الخُلُقَ الأَضْخَمَّا . . ... . )
فهذَا أَجراهُ في الوصلِ علَى حدهِ في الوقفِ
الثالث منها : ومِنْ ذلكَ إدخالُ النونِ الخفيفةِ والثقيلةِ في الواجبِ نحو قولهِ :
( رُبَّمَا أَوفيتُ في عَلَمِ ... تَرْفَعَنْ ثَوبي شَمَالاَتُ )
وهذا قديمٌ يقولهُ جذيمةُ الأبرش
الرابعُ منها : ومِنْ ذلكَ إثباتُ الأَلفِ في ( أَنا ) في الوصلِ وإنَّما يثبتُ في الوقفِ روَى الأعشى :
( فكيفَ أَنا وانْتِحَالي القَوافي ... بَعْدَ المشيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا )
فأثبتَ الألفَ ووصلَ واحتجَّ النحويونَ بأَنَّ الألفَ منقلبةٌ مِنْ ياءٍ أَوْ وَاوٍ فَردوا ما ذهبَ مِنَ الإسمِ
قالَ أبو العباس : هذَا لا يصلحُ لأَنَّهُ لَو كانَ كما يقولونَ لم تقلبِ الياءُ والواوُ أَلفاً لأَنَّهما لا يكونانِ إلاّ ساكنينِ لأَنَّ هذَا اسمٌ مضمرٌ مبنيُّ فلاَ سبيلَ إلى القلبِ فمنْ هَا هُنا فَسدَ ولِهَذا كانتِ الألفُ في جميعِ الحروفِ التي جاءتْ لمعنىً أَصلاً لأَنَّها غيرُ منقلبةٍ لأَنَّ الحروفَ لا حَقَّ لهَا في الحركةِ وإنَّما هيَ مسكَنةٌ فلا تكونُ أَلِفاتُها منقلبةً وذلكَ : حَتى وأَمّا وإلاَ ومَا أَشبهها هذهِ أَلفاتُها مِنَ الأصلِ غيرُ منقلبةٍ والإسمُ والفعلُ الألفُ فيهما لا تكونُ أصلاً
قالَ أبو العباس : وروايةُ البيتِ :
( فكيفَ يكون انتحالي القوافي بعد المشيب . . ... . )
الثاني : الحذفُ :
الأول : منهُ حذفُ التنوينِ لإلتقاءِ الساكنينِ نحو قولِه :
( فأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ولاَ ذَاكر الله إلاّ قَلِيلاً ... )
وأَقبحُ منهُ حذفُ النونِ . قالَ الشاعرُ :
( فَسْتُ بآتيهِ ولا أَسْتَطيعُهُ ... وَلاَكِ اسقِني إنْ كانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ )
الثاني منه :
أَنْ تحذفَ للإِضافةِ والألفِ واللامِ ما كنتَ تحذفهُ للتنوينِ لأَنَّ هذه الأَشياءَ تتعاقبُ . قالَ الشاعر :
( كَنَواحِ رِيْشِ حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ ... وَمَسَحْتِ باللَّثَتَينِ عَصْفَ الإِثمِدِ )
فحذفَ الياءَ من ( نواحِي ) لمَّا أَضافها إلى ( ريشٍ ) كمَا كانَ يحذفُها معَ التنوينِ وأَما حذفُها مَع الأَلفِ فنحو قولِهِ :
( وأَخُو الغَوَانِ مَتَى يَشأ يَصْرِمْنَهُ ... ويَصِرنَ أَعداءً بُعَيدَ وِدِادِ )
الثالثُ منه : ما رُخّمَ في غَيرِ نداءٍ :
قالَ زهير :
( خُذوا حظَّكُم يَا آلَ عِكْرِمَ واذْكُرُوا ... أَوَاصرَكمْ والرَّحْمُ بالغَيْبِ تُذْكَرُ )
يريدُ : عِكْرمةَ وقَالَ :
( إنَّ ابنَ حَارثَ إنْ أشتَقْ لرُؤيتهِ ... أَو أَمتَدِحْهُ فإنَّ الناسَ قَد عَلِمُوا )
يريدُ : ابنَ حَارثةَ وهذَا كثيرٌ . وقالَ في قولِه :
( قَواطِنَاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِي . . ... . )
إنهُ حذفَ الميمَ التي هيَ لامُ الفعلِ وقلبَ ألفَ الحمامِ ياءً وأَحَسنُ مَا قِيلَ فيهَ إنَّ الشاعرَ لمَّا اضطرَّ حذفَ الأَلفَ مِنَ الحمامِ لأَنَّها مَدةٌ كمَا تحذفُها مِنْ سَائرِ المدودِ فصارَ الحَمِمُ فلزمهُ التضعيفُ فأَبدلَ مِنْ إحدى الميمينِ ياءً كمَا فَعلوُا في ( تَظَنيْتُ )
الرابعُ منهُ أَن تحذفَ مِنَ المكني في الوَصلِ :
كَمَا كنتَ تحذفُه في الوقفِ إلاّ أَنهُ تبقى الحركةُ دَالةً على المحذوفِ فَمِنْ ذلكَ قولُه :
( فإِنْ يَكُ غَثَّاً أَوْ سَميناً فإنني ... سأَجْعَلُ عِينيهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا )
وقالَ :
( ومَا لَهُ مِنْ مَجدٍ تَليدٍ وَلاَ لَهُ ... مِنَ الريحِ فَضْلٌ لاَ الجُنوبِ ولا الصّبَا )
فالواوُ والياءُ في هذا زوائدُ في الوصلِ فحذفها لمّا احتاجَ وأَبعدُ من هذَا قولهُ :
( فبيناهُ يَشْري رَحلَهُ قالَ قَائلٌ ... لِمَنْ جَمَلٌ رَخو الملاطِ نَجيبُ )
فإنَّ هذَا حذفَ الواوَ مِنْ هُوَ والمنفصلُ كالظاهرِ تقفُ علَى الواوِ ولا يجوزُ حذفُها فيبقى الإسمُ علَى حرفٍ وَهوَ اسمٌ يجوزُ الإبتداءُ بهِ ولا كلامَ قَبلَهُ ومثلهُ :
( دَارٌ لِسُعْدَى اذهِ مِنْ هَوَاكا . . ... . )
وقَد جَاءَ في الشعرِ حذفُ الياءِ والواوِ الزائدةِ في الوصلِ معَ الحركةِ كمَا هيَ في الوقفِ سَواءٌ قالَ رجَلٌ مِنْ أَزد السراةِ :
( فَظِلتُ لدى البيتِ العَتيقِ أُخليهُ ... ومَطْوايَ مَشتاقانِ لَهُ أَرِقَانِ )
الخامسُ : منهُ حذفُ الفاءِ مِنْ جَوابِ الجزاءِ
وذلكَ قولُ ذي الرمة :
( وإنيّ مَتَى أُشْرِفْ عَلَى الجَانبِ الذي ... بهِ أَنْتِ مِنْ بَينْ الجَوانبِ ناظِرُ )
هُوَ عندَ سيبويه على تقديم الخبرِ نَاظرٌ متى أَشرفُ
وأَجاز أَيضاً أَنْ يكونَ على إضمارِ الفاءِ والذي عندَ أَبي العباس وعندي فيه وفي مثالِه أَنَّهُ على إضمارِ الفاءِ لا غير لأَنَّ الجوابَ في مَوْضِعِهِ فَلا يجوزُ أَنْ تنوي بهِ غيرَ موضعِه إذَ وُجدَ لَهُ تأَويلٌ ومثلُه :
( يا أَقْرَعُ بن حَابسٍ يا أَقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخوكَ تُصْرَعُ )
فهذاَ على ما ذكرتُ لكَ وكذلكَ قولهُ :
( فَقلتُ تَحَمَّلْ فوقَ طَوقِكَ إنَّها ... مُطَبَّعةٌ مَنْ يأتِها لا يَضيرُها )
أَرادَ : لا يضيرها مَنْ يأتِها وإنَّك تصرعُ إنْ يصرعْ أَخوكَ عندَ سيبويه وَهْوَ عندنا على إضمارِ الفاءِ
فأَمَّا قولهُ :
( مَنْ يَفعلِ الحَسَناتِ اللُه يشكُرُها ... والشرُّ بالشَّرِّ عند اللِه مِثْلانِ )
فإنّهُ عَلَى إضمارِ الفاءِ في كُلِّ قَولٍ
السادسُ : منهُ ما حُذفَ مِنهُ المنعوتُ وذُكرَ النعتُ :
اعلَم : أَنَّ إقامةَ النعتِ مقامَ المنعوتِ في الكلامِ قبيحُ إلاّ أَنْ يكونَ نعتاً خاصاً يخصُّ نوعاً مِنَ الأَنواعِ كالعاقِل الذي لا يكونُ إلا في الناسِ والكاتبِ ومَا أَشبهَ ذلكَ مِمّا تقعُ بهِ الفائدةُ ويزولُ اللبسُ فإذَا اضطرَ الشاعرُ فلَهُ أَن يقيمَ الصفةَ مقامَ الموصوفِ و ( الذي ) وضعتْ ليوصفَ بِها معَ صلتِها فَمِن قبيحِ ما جاءَ في ضرورةِ الشّاعر قولُه :
( مِنْ أَجلكِ يالتي تَيُّمْتِ قَلبي ... وأنْتِ بَخيلةٌ بالوُدِّ عَني )
فأَدخلَ ( يا ) علَى ( التي ) وحرفُ النداءِ لا يدخلُ علَى ما فيهِ الأَلفُ واللامُ إلا في اسمِ اللهِ عز و جلَّ وقَدْ مضى ذِكرُ ذَا فشبهَ الشاعرُ الألفَ واللامَ في ( التي ) باللامِ التي في قولِكَ ( الله عز وجَلَّ ) إذ كانتا غيرَ مفارقتينِ للإسمينِ
الثالثُ : مما جاءَ كالشاذِّ وهوَ وضعُ الكلام فِي غيرِ مَوضعهِ وتغيير نضده :
أَحسنُ ذلكَ قلبُ الكلامِ إذَا لَمْ يُشكلْ فِمِنْ ذلكَ قولُه :
( تَرى الثَوْرَ فيها مُدخلَ الظِّلَّ رأَسَهُ ... وسَائرهُ بَادٍ إلى الشَمْسِ أَجْمَعُ )
فالمعنى : مُدْخِلُ رأسهِ الظلّ ولكنْ جعلَ الظلَّ مفعولاً على السعةِ وأَضافَ إليهِ والنحويونَ يجيزونَ مثلَ هذَا في غيرِ ضرورةٍ فيقولونَ :
( يَا سارِقَ الليلةِ أَهلَ الدارِ ... )
فَأمَّا الذي يبعدُ فنحو قولِهِ :
( مِثلُ القَنَافذِ هَدّاجونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرانَ أَو بَلَغتْ سَوآتِهم هَجَرُ )
فجعلَ ( هَجَر ) في اللفظِ هِيَ التي تبلغُ السوآتِ لأَنَّ هذَا لا يشكلُ ولا يحيلُ والفرقُ بينَ هَذا وبينَ البيتَ الذي قَبْلَه أَنَّ ذاكَ قُدِّمَ فيهِ المفعولُ الثاني على المفعولِ الأولِ وَهْوَ غيرُ مُلْبسِ فَحَسُنَ لأَنَّهُ يجوزُ أنْ تضيفَ ( مدخلَ ) إلى ( رأسِه ) ولا تذكرُ ( الظلّ ) وتضيفهُ إلى ( الظلّ ) ولا تذكرُ ( رأَسَهُ ) وهذَا خِلافُ ذلكَ لأَنكَ جعلتَ الفاعلَ فيهِ مفعولاً والمفعولَ فاعلاً وينشدونَ في مثلهِ :
( وتَشْقَى الرِّماحُ بالضَّياطِرةِ الحُمْرِ . . ... . )
وإنّما يشقى الرجالُ وقَدْ يحتملُ المعنى غيرَ ما قالوا ( قد شقى الخزُّ بفلانٍ ) إذْ لم تجعلْهُ أَهلاً لَهُ فهذَا على السعةِ والتمثيلِ يكونُ المعنى : قَدْ شَقيَ الرمحُ بأبدانِ هؤلاءِ وكقولِهم : أتعبتُ سيفي في رقابِ القومِ إني فعلتُ بهِ ما إذا فَعَل بِمَنْ يجوزُ عليهِ التَّعَبُ تَعِبَ
فأَمَّا قَولُ الله عزَ وجَلّ : ( مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ ) فَقَدْ احتملَهُ قومٌ علَى مثلِ هَذا وقالوا : إنَّما العصبةُ تنوءُ بالمفاتيحِ وتحملُها في ثِقْلٍ
قالَ أبو العباس : وليسَ هكذا التقديرُ إنَّما التقديرُ : لتنوء بالعصبةِ : أَي : تجعلُ العصبةَ مثقلةَ كقولِكَ : انْزلْ بِنَا أَي : اجعلنَا ننزل معكَ وكقولِكَ : ارْحَلْ بِنَا يا فلانُ أَي : اجعلْنَا نرحلُ مَعك ومثلهُ قولُ ابن الخطيمِ :
( دِيارُ التي كَادتْ ونَحنُ علَى مِنَىً ... تَحلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَّكَائِبِ )
أي : تجعلنا نحلُّ لا أَنَّها هيَ تنتقل إلينا ومِنْ هَذا البابِ قَولُ الشَاعرِ :
( صَدَدْتِ فأطْوَلْتِ الصُّدودَ وقَلّما ... وصالٌ علَى طُولٍ الصُّدودِ يَدُومُ )
والكلامُ : قَلَّ ما يدومُ وِصالٌ ولَيْسَ يجوزُ أَن يرفع ( وصالٌ ) بيدومُ وقَد أَخَّرهُ ولكنْ يجوزُ هَذا عندي على إضمارِ ( يكونُ ) كأنهُ قالَ : قُلَّ ما يكونُ وصالٌ يدومُ على طولِ الصدودِ وحَقّ ( مَا ) إذا دخلتْ كافةً في مثلِ هذا الموضعِ فإنَّما تدخلُ ليقعَ الفعلُ بعدَها وكذلكَ يكونُ معَ الحرفِ نحو : (
رُبَّمَا يَوَدُّ الذِينَ كَفَرُوا ) وإنّما يقومُ زيدٌ وما أَشبهَ ذلكَ مِما لا يجوزُ أَن يليَهُ الفعلُ فإذَا كُفَّ ( بِمَا ) وبُنيَ معهَا وَلِيَهُ الفِعْلُ ومِنْ هَذا البابِ قولُ الفرزدق :
( وَمَا مِثْلُه في النَّاسِ إلا مُمَلكاً ... أَبو أُمهِ حَيٌّ أَبوهُ يُقَاربُه )
يريدُ : مَا مثلُه في الناسِ حَيٌّ يقاربهُ إلاّ مُملكٌ أَبو أُمِ ذلكَ المملكِ أَبوهُ ولكنْ نصبَ مملكاً حيثُ قَدَّمَ الإستثناءَ ومِنْ هذَا فصلُهم بالظرفِ بينَ المضافِ والمضافِ إليهِ نَحو قولِه :
( كَمَا خَطَّ الكتابُ بكفِّ يَوماً ... يهوديٍّ يقارِبُ أَو يُزِيلُ )
وكقول الآخر : للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها
الرابعُ : هو إبدالُ حرفِ اللينِ مِنْ حرفٍ صحيحٍ :
اعلَمْ : أَنَّ الشاعرَ يضطر فيبدلُ حروفَ اللينِ مِنْ غيرِها كَما قَالَ :
( لهَا أَشاريرُ مِنْ لَحْمٍ تُتمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعِالي وَوَخْزٌ مِنْ أرانِيها )
يريدُ ( الثعالبَ وأرانبَها ) فكانَ الشعرُ ينكسر لو ذكرَ ( الباءَ ) في الثعالبِ وتفسدُ القافيةُ لأَنَّ رويَهُ الياءُ فابدلَ الباءَ لأَنَّ الحركةَ لا تدخلُها فينكسرُ الوزنُ فكذلكَ أَبدلَ ياءً في ( الحَمِي ) وهو يُريدُ ( الحَمامَ ) ومِنْ قبيحِ ما جَاءَ في الضرورةِ عندَ النحويينَ
قالَ أبو بكر : وهو عندي لا يجوز ألبتَة بوجه من الوجوه شعر ينشدونه يجعلون فيه الألف التي هي بدل من التنوين بمنزلة هاء التأنيث فيظهرون الياء قبلها كما يقولون : شقاية وشقاوة وذلك قوله :
( إذَا ما المرءُ صُمَّ فَلَم يُكَلَّمْ ... وأَعيَا سَمْعُهُ إلا نَدَايا )
( ولاعَبَ بالعَشي بني بنيهِ ... كفعلِ الهرِّ يَلْتَمِسُ العظَايَا )
( يلاعبُهم ووَدوا لو سَقوهُ ... مِنَ الذِّيفانِ مُترَعةً إنَايَا )
( فأَبعدهُ الإِلهُ ولا يُؤتَى ... ولا يُعَطّى مِنَ المَرضِ الشِّفَايَا )
قالَ أبو العباس : فَمَنْ أَجازَ هذا فلا ضرورةَ لَهُ في إجازتهِ إلاّ الروايةُ وَهوَ أَحقُّ كلاَمٍ بِالرفعِ وأَولى قَولٍ بالردِّ وإنَّما حقٌّ هَذا الشعرِ أَنْ يكونَ مهموزاً فيقولُ : ولا يُعَطّى مِنَ المرض الشِّفَاءَ وكذلكَ العَظَاءَ وَأَعْيَا سمعهُ إلا النداءَ ومِنْ ذلكَ إبدالُ الهمزةِ في الموضعِ الذي لا يقومُ فيهِ الشعرُ بتحقيقهِ ولا تخفيفهِ فإنْ كانَ مفتوحاَ جُعِلَ ألفاً وإنْ كانَ مكسوراً جُعِلَ ياءً وإنْ كانَ مضموماً جُعِلَ واواً نحو قول الفرزدقِ:
( رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ البغالُ عَشِيَّةً ... فأرْعَى فَزَارةُ لاَ هَنَاك المَرْتَعُ )
وقالَ حسانُ بن ثابت :
( سَاْلَتْ هُذَينٌ رسولَ اللَّهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذيلُ بمَا قَالتْ ولَم تُصِبِ )
وقالَ زيدٌ بن عمرو بن نُفيلٍ :
( سَاْلَتاني الطَّلاقَ إنْ رأتاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرٍ )
فهذانِ لَيْسَ من لغتِهما ( سِلْتُ أسأْلُ وسِلْتُ أسْالُ ) لغة مِنْ غيرِ هَذا الأَصلِ ( كخِفْتُ أَخاف ) في التقديرِ والوزنُ ليسَ مِنْ أَصلِ الهمزةِ ويقولُ : هُمْ يتساولانِ كقولِكَ : يَتقاولانِ ومِنَ الهمزةِ المبدلةِ للضرورةِ :
( لاَ يرهبُ ابنُ العمِّ مَتَى صَوْلَتي ... ولا أَخْتَتِي مِن صَوْلةِ المُتَهَدّدِ )
وإنَّما يقالُ ( اخْتَتأتُ إذا استترتُ مِنْ خضوعٍ وفَرَقٍ )
الخامسُ : تغيرُ وجهُ الإِعرابِ للقافيةِ :
مِنْ ذلكَ إدخالُ الفاءِ في جوابِ الواجبِ ونصبُ ما بعدَها وهذَا لا يجوزُ في الكلامِ وإنَّما ينصبُ ما بعدَها إذا كانَ مخالفاً لما قبلهَا وذلكَ إذا كانتْ جواباً لأمرٍ أَو نهيٍ أَو تَمنٍّ أَو استفهام أَو نفيٍ قالَ الشاعرُ :
( سأَتركُ مَنْزِلي لبَني تَمْيمٍ ... فألحقُ بالحِجَازِ فاسترِيحَا )
وقالَ طرفةُ :
( لَنا هضْبَةٌ لاَ يَدْخلُ الذَّلُّ وسطَها ... ويأوي إليها المُستِجيزُ فَيُعصَما )
وإنّما كانَ النصبُ فيما خالفَ الأَولَ على إضمار ( أَنْ ) إذا قالَ : ما تأتني فتُكرِمَنِي كأَنَّه قالَ : ما يكونُ مِنكَ إتيانٌ فأَنْ تكرِمَني فإذَا قالَ : أَنتْ تأتيني فتكرُمني فهوَ كقولِكَ : أَنتَ تأتيني وأَنْتَ تكرِمُني فإذَا نَصَبَ للضرورةِ كانَ التقديرُ : أَنْتَ يكونُ مِنكَ إتيانٌ فأَنْ تكرمَني ومِنَ الضروراتِ وهوَ مِنْ أَحسنِها في هَذا البابِ
وقاَلَ أبو العباس : لو تَكلمَ بها في غيرِ شعرٍ لجازَ ذلكَ قولهَ :
( قَد سَالمَ الحياتِ منهُ القَدَمَا ... الأُفعُوانَ والشُّجاعَ الشَّجْعَمَا )
( وذاتَ قَرنينِ ضَمُوزاً ضِرْزَمَا ... )
لأَنهُ حينَ قالَ : ساَلمَ الحياتِ منهُ القَدَما عُلِمَ أَنَّ القدمَ مُسَالِمةٌ كَما أَنَّها مُسَالَمَةٌ فنصبَ الأُفعوانَ بأَنَّ القدمَ سَالمتْها لأَنكَ إذا قُلتَ : سَالمتُ زيداً وضَاربتُ عمراً فَقَدْ كانَ مِنكَ مِثلُ ما كانَ إليكَ فإنَّما صَلُحَ هَذَا لإستغناءِ الكلامِ الأولِ فحملت ما بعدَهُ بعدَ اكتفاءِ الكلامِ علَى ما لا ينقضُ معناهُ وقَدْ قرأَ بعُضُ القراءِ : ( وَكَذلِكَ زُيِّنَ لكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهم ) لمّا استغنى الكلامُ بقولِه : قَتْلُ أولادِهم حملَ الثاني على المعنى أَي : ( زَينهُ شركاؤُهم ) فَعَلى هذا تقولُ : ضُرِبَ زيدٌ عبدُ الله لأَنكَ لمّا قلتَ : ضُرِبَ زيدٌ عُلِمَ أَنَّ لَهُ ضارباً فكأَنكَ قلتَ : ضَربهُ عبدُ الله . وعلَى هذَا ينشد :
( لِيُبكَ يَزيدٌ ضَارعٌ لِخُصومَةٍ ... )
ومِنْ هَذا البابِ قولُ القطامي :
( فكرتْ تَبتغيهِ فَوَافَقَتْهُ ... علَى دَمِه وَمَصْرَعِهِ السِّبَاعَا )
لأَنهُ لمَّا قَالَ : وافقتهُ عُلم أَنَّها قَد صَادفتِ السباعَ معهُ فكأَنَّهُ قالَ : صادفتِ السباعَ علَى دمهِ ومصرعِه ومثلُ ذلكَ :
وَجَدْنَا الصالحينَ لَهُم جَزاءٌ ... وَجَنَّاتٍ وعَيْناً سَلْسَبيلاَ )
أَي : وجدنا لَهم عيناً فلهذَا بابٌ في الضروراتِ غيرِ ضَيقٍ ومِمّا يَقْربُ مِنْ هذا الباب قوله :
( أَقامتْ علَى رَبْعَيهما جَارَتا صَفاً ... كُميتَا الأَعالِي جَوْنَتا مُصطَلاهُما )
وإنَّما الكلامُ : ( جُوْنَا المُصطَليَينِ ) فردهُ إلى الأَصلِ في المعنى لأَنَّكَ إذَا قلتَ مررتُ برجلٍ حَسنِ الوجهِ فمعناهُ : حَسُنَ وجهُهُ فإذَا ثنيتَ قلتَ : برجلينِ حَسَن الوجوهِ فإنْ رددتهُ إلى أصلِه قلتَ : برجلينِ حَسَن وجوههُما فإذا قلتَ : وجوُههُما لم يكن في ( حَسَنٍ ) ذكرُ ما قبلَهُ وإذا أَتيتَ بالألفِ واللامِ وأضفتَ الصفةَ إليها كانَ في الصفةِ ذكر الموصوفِ فكانَ حَقٌّ هذا الشاعر لما قالَ : مُصْطَلاهُما أَنْ يُوَحدَ الصفةَ فيقولُ : جَونٌ مُصْطَلاهُما
السابع : تأَنيثُ المذكرِ علَى التأويلِ :
مِنْ ذلكَ قولُ الشاعر :
( فكانَ مِجَنّى دونَ مَنْ كنتُ أتقَّي ... ثَلاثُ شُخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ )
فإنَّما أَنَّثَ الشخوصَ لقصدهِ النساءَ فحملهُ على المعنى ثُمَّ أبانَ عَنْ إرادتِهِ وكشفَ عَنْ معناهُ بقولِه : كاعبانِ ومُعصرُ ونظيرُ ذلكَ قوله :
( وإنَّ كِلاباً هذهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وأَنتَ بَرِيءٌ مِنْ قبائِلها العَشْرِ )
فقالَ : عَشْرُ أَبطنٍ يريدُ : قَبَائلُ وأَبانَ في عجزِ البيتِ ما أرادَ فأَمَّا في النعوتِ فإنَّ ذلك جَيدٌ بَالغٌ تقولُ : عندي ثلاثةُ نَسَّاباتٍ وعَلاّماتٍ لأنَّكَ إِنَّما أَردتَ عندي ثلاثةُ رجالٍ ثُمَ جئتَ بنَسَّاباتٍ نعتاً لهم فهذَا الكلامُ الصحيحُ وقد قرأتِ القراءُ : ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) لأَنَّ العددَ وَقعَ على حَسَناتٍ أَمثالَها
قالَ محمد بن يزيد : ومن الشيءِ الذي في الشعرِ فيكونُ جميلاً ومجازهُ مجازُ الضروراتِ عندَ النحويينَ وليس عندَه كذلكَ قولُهم في الكلامِ : ذهبتْ بعضُ أَصابعهِ لأَنَّ بعضَ الأصابعِ إصْبعٌ فحملهُ على المعنى قالَ جريرُ :
( لَمَّا أَتىَ خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سَورُ المَدِينةِ والجبالُ الخَشَّعَ )
لأَنَّ السورَ من المدينة وقَالَ أَيضاً :
( رأتْ مَرَّ السِّنينَ أَخّذْنَ مِنّي ... كما أَخذَ السِّرارُ مِنَ الهِلاَلِ )
فَقالَ : أَخذنَ فردهُ إلى السنينِ ولم يردهُ إلى مرِّ لأَنَّهُ لا معنَى للسنين إلاَ مَرها ومثلُه قولُ الأعشى :
( وتَشرقُ بالقولِ الذي قَدْ أَذْعْتَهُ ... كَما شَرَقتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ )
لأَنَّ صدَر القناةِ من القناةِ
قالَ محمد بن يزيد : يردُّ عَلَى مَن ادّعى أَنَّ هذَا مجراهُ مجرى الضرورةِ القرآن أفصحُ اللغاتِ وسيدُها وما لا تعلقُ بهِ ضَرورةٌ ولا يلحقهُ تجوزٌ
قالَ الله عز و جلَ : ( إنْ نَشَأْ نُنَزِّلُ عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ آيةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لهَا خَاضِعِينَ )
فَخبَّرَ عَنْهم وتركَ الأَعناق . وقَالَ : قال أَبو زيدٍ : وقَد قالَ غيرهُ :
الأعناقُ : الجماعاتُ مِنْ ذلكَ قولُكَ : جَاءني عُنُقٌ مِنَ الناسِ أي : جماعةٌ كمَا قالَ القائلُ لعلي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهُ :
( أَبلغْ أَميرَ المؤمنينَ أَخَا العراقِ إذا أَتيْتَا ... )
( أنَّ العِرَاقَ وأهلَه عُنُقٌ إليكَ فَهَيْتَ هَيْتَا ... )
قالَ : فهذاَ قولٌ والأولُ هو الذي يعملُ عليهِ
قالَ أَبو بكر : والذي عندي في ذلكَ أَنَّ الآية ليستْ نظيرةَ الأَبياتِ التي ذكرتْ لأَنَّ تلك بُنيَ فيها اسمٌ مؤنثٌ على فِعْلٍ مؤنثٍ والآية قد جَاءتْ باسمٍ مذكرٍ بعدَ مؤنثٍ في اللفظِ فردَ ( خاضعينَ ) إلى أَصحابِ الأَعناقِ ومِنْ ذلكَ قَولُ ذي الرمةِ :
( مَشَينَ كَمَا اهْتزَّت رِماحٌ تَسَفَّهتْ ... أَعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ )
ومِنْ ذَلك قَولُ الراجز :
( مُرُّ الليالي أَسَرَعتْ في نَقْضِي ... أَخَذْنَ بَعْضِي وَتَرْكنَ بَعْضِي )
فَقَد ذكرتُ في كُل حَدٍّ مِنَ الحدودِ ما أَجازتهُ الضرورُ
● [ هذَا آخرُ الأصول بحمدِ الله ومنتِه ] ●
والحمدُ لله الواحد العدلِ ذي الجلالِ والمنةِ والفضلِ والصلواتُ على رسولِه محمدٍ وآلهِ فُرغَ من انتساخِه ثالثَ عَشَر شَهْر رمضانَ سنة إحدى وخمسينَ وستِّ مئةٍ شاكراً على نعمهِ وأَفضالهِ ومصلِّياً علَى النبي وآلهِ
قوبلَ بنسخةٍ مقروءةٍ علَى الشيخِ أبي الحسنِ علي بن عيسى النحوي رحمهُ الله كتبهُ محمود بن أبي المفاخر محمود غفر الله ذنوبه وستر عيوبهُ والحمدُ لله رَبِّ العالمينَ وصلَّى الله علَى سيدِنا محمدٍ وآلهِ الطاهرينَ
تم بحمد الله تعالى
كتاب : الأصول في النحو لإبن السراج النحوي البغدادي
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله
منتدى ميراث الرسول - البوابة