بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة السيرة والتاريخ
تاريخ الخلفاء للسيوطيي
خلفاء الدولة ألأموية [ 1 ]
● [ معاوية بن أبي سفيان ] ●
41 هـ 60 هـ
معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي أبو عبد الرحمن أسلم هو و أبوه يوم فتح مكة و شهد حنينا و كان من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامه و كان أحد الكتاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم
روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم مائة حديث و ثلاثة و ستون حديثا
و روى عنه من الصحابة : ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير و أبو الدرداء و جرير البجلي و النعمان بن بشير و غيرهم
و من التابعين : ابن المسيب و حميد بن عبد الرحمن و غيرهما
و كان من الموصوفين بالدهاء و الحلم و قد ورد في فضله أحاديث قلما تثبت
و أخرج الترمذي و حسنه [ عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لمعاوية : اللهم اجعله هاديا مهديا ]
و أخرج أحمد في مسنده [ عن العرباض بن سارية : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم علم معاوية الكتاب و الحساب و قه العذاب ]
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و الطبراني في الكبير [ عن عبد الملك بن عمير قال : قال معاوية : ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معاوية إذا ملكت فأحسن ]
● نسبه و بعض صفاته
و كان معاوية رجلا طويلا أبيض جميلا مهيبا و كان عمر ينظر إليه فيقول : هذا كسرى العرب
و عن علي قال : لا تكرهوا إمرة معاوية فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها
و قال المقبري : تعجبون من دهاء هرقل و كسرى و تدعون معاوية ؟
و كان يضرب بحلمه المثل و قد أفرد ابن أبي الدنيا و أبو بكر بن أبي عاصم تصنيفا في حلم معاوية
قال ابن عون : كان الرجل يقول لمعاوية : و الله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك فيقول : بماذا ؟ فيقول : بالخشب فيقول : إذن نستقيم
و قال قبيصة بن جابر : صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلما و لا أبطأ جهلا و لا أبعد أناة منه
و لما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان فلما مات يزيد استخلفه على دمشق فأقره عمر ثم أقره عثمان و جمع له الشام كله فأقام أميرا عشرين سنة و خليفة عشرين سنة
● بعض الأحداث في عصره
قال كعب الأحبار : لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية قال الذهبي : توفي كعب قبل أن يستخلف معاوية قال : و صدق كعب فيما نقله فإن معاوية بقي خليفة عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض بخلاف غيره ممن بعده فإنه كان لهم مخالف و خرج عن أمرهم بعض الممالك خرج معاوية على علي كما تقدم و تسمى بالخلافة ثم خرج على الحسن فنزل له الحسن عن الخلافة فاستقر فيها من ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة إحدى و أربعين فسمي هذا العام عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد و فيه ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة
و في سنة ثلاث و أربعين فتحت الرخج و غيرها من بلاد سجستان و ودان من برقة و كور من بلاد السودان و فيها استخلف معاوية زياد بن أبيه و هي أول قضية غير فيها حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الإسلام ذكره الثعالبي و غيره
و في سنة خمس و أربعين فتحت القيقان
و في سنة خمسين فتحت قوهستان عنوة و فيها دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد فبايعوه و هو أول من عهد بالخلافة لابنه و أول من عهد بها في صحته ثم إنه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة فخطب مروان فقال : إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم و لده يزيد سنة أبي بكر و عمر فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال : بل سنة كسرى و قيصر إن أبا بكر و عمر لم يجعلاها في أولادهما و لا في أحد من أهل بيتهما
ثم حج معاوية سنة إحدى و خمسين و أخذ البيعة لابنه فبعث إلى ابن عمر فتشهد و قال : أما بعد يا ابن عمر إنك كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير و إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين أو تسعى في فساد ذات بينهم فحمد ابن عمر الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك و لكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار و إنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين و لم أكن لأفعل و إنما أنا رجل من المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا رجل منهم فقال : يرحمك الله ! فخرج ابن عمر ثم أرسل إلى ابن أبي بكر فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه و قال : إنك لوددت أنا و كلناك في أمر ابنك إلى الله و إنا و الله لا نفعل و الله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لنعيدنها عليك جذعة ثم وثب و مضى فقال معاوية : اللهم اكفنيه بما شئت ثم قال : على رسلك أيها الرجل لا تشرفن على أهل الشام فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشية أنك قد بايعت ثم كن بعد على ما بدا لك من أمرك ثم ؟ أرسل إلى ابن الزبير فقال : يا ابن الزبير إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر و إنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما و حملتهما على غير رأيهما فقال ابن الزبير : إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلتها و هلم ابنك فلنبايعه أرأيت إذا بايعنا ابنك معك لأيكما نسمع و نطيع ؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدا ثم راح فصعد معاوية المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا أن ابن عمر و ابن أبي بكر و ابن الزبير لن يبايعوا يزيد و قد سمعوا و أطاعوا و بايعوا له فقال أهل الشام : و الله لا نرضى حتى يبايعوا له على رؤوس الأشهاد و إلا ضربنا أعناقهم فقال : سبحان الله ! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر لا أسمع هذه المقالة من أحد منكم بعد اليوم ثم نزل فقال الناس : بايع ابن عمر و ابن أبي بكر و ابن الزبير و هم يقولون : لا و الله ما بايعنا فيقول الناس : بلى و ارتحل معاوية فلحق بالشام
و عن ابن المنكدر : قال : قال ابن عمر حين بويع يزيد : إن كان خيرا رضينا و إن كان بلاء صبرنا
و أخرج الخرائطي في الهواتف عن حميد بن وهب قال : كانت هند بنت عتبة بن ربيعة عند الفاكه بن المغيرة و كان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن فخلا البيت ذات يوم فقام الفاكه و هند فيه ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته و أقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه فلما رأى المرأة ولى هاربا فأبصره الفاكه فانتهى إليها فضربها برجله و قال : من هذا الذي كان عندك ؟ قالت : ما رأيت أحدا و لا انتبهت حتى أنبهتني فقال لها : الحقي بأهلك و تكلم فيها الناس فخلا بها أبوها فقال لها : يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذاك فإن يكن الرجل صادقا دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا المقالة و إن يكن كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن قال : فحلفت له بما كانوا يحلفون به في الجاهلية أنه كاذب عليها فقال عتبة للفاكه : إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف و معهم هند و نسوة معها تأنس بهن فلما شارفوا البلاد تنكرت حال هند و تغير وجهها فقال لها أبوها : يا بنية إني قد أرى ما بك من تغير الحال و ما ذاك إلا لمكروه عندك قالت : لا و الله يا أبتاه و ما ذاك لمكروه و لكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب فلا آمنه أن يسمني بسيماء تكون علي سبة في العرب فقال لها : إني سوف أختبره لك قبل أن ينظر في أمرك فصفر بفرسه حتى أدلى ثم أدخل في إحليله حبة من الحنطة و أوكأ عليها بسير و صبحوا الكاهن فنحر لهم و أكرمهم فلما تغدوا قال له عتبة : إنا قد جئناك في أمر و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو ؟ قال : برة في كمرة قال : أريد أبين من هذا قال : حبة من بر في إحليل مهر فقال عتبة : صدقت انظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهن و يضرب كتفها و يقول : انهضي حتى دنا من هند فضرب كتفها و قال : انهضي غير رسحاء و لا زانية و لتلدين ملكا يقال له معاوية فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده و قالت : إليك و الله لأحرصن أن يكون ذلك من غيرك فتزوجها أبو سفيان فجاءت بمعاوية
مات معاوية في شهر رجب سنة ستين و دفن بين باب الجابية و باب الصغير و قيل : إنه عاش سبعا و سبعين سنة و كان عنده شيء من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قلامة أظفاره فأوصى أن تجعل في فمه و عينيه و قال : افعلوا ذلك و خلو بيني و بين أرحم الراحمين
● نبذ من أخباره
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن جمهان قال : قلت لسفينة : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال : كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من أشد الملوك و أول الملوك معاوية
و أخرج البيهقي و ابن عساكر عن إبراهيم بن سويد الأرمني قال : قلت لأحمد بن حنبل : من الخلفاء ؟ قال : أبو بكر و عمر و عثمان و علي قلت : فمعاوية ؟ قال : لم يكن أحق بالخلافة في زمان علي من علي و أخرج السفلي في الطوريات عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن علي و معاوية فقال : اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاؤوا إلى رجل قد حاربه و قاتله فأطروه كيادا منهم له
و أخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال : من أنت ؟ قال : جارية بن قدامة قال و ما عسيت أن تكون ؟ هل أنت إلا نحلة ؟ قال : لا تقل فقد شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق و الله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب ؟ و ما أمية إلا تصغير أمة
و أخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية فقال له معاوية : أنت الساعي مع علي بن أبي طالب و الموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم ؟ قال جارية : يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه و لا غششناه منذ صحبناه قال : ويحك يا جارية ! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية ! قال : أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية قال : لا أم لك قال : أم ما ولدتني إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا قال : إنك لتهددني قال : إنك لم تملكنا قسرة و لم تفتحنا عنوة و لكن أعطيتنا عهودا و مواثيق فإن وفيت لنا وفينا و إن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا و أذرعا شدادا و أسنة حدادا فإن بسطت إلينا فترا منغدر زلفنا إليك بباع من ختر قال معاوية : لا أكثر الله في الناس أمثالك
و أخرج عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي أنه دخل على معاوية فقال له معاوية : ألست من قتلة عثمان ؟ قال : لا و لكني ممن حضره فلم ينصره قال : و ما منعك من نصره ؟ قال : لم تنصره المهاجرون و الأنصار فقال معاوية : أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه قال : فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره و معك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أما طلبي بدمه نصرة له ؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال : أنت و عثمان كما قال الشاعر :
لا ألفينك بعد الموت تندبني . و في حياتي ما زودتني زادا
و قال الشعبي : أول من خطب الناس قاعدا معاوية و ذلك حين كثر شحمه و عظم بطنه أخرجه ابن أبي شيبة
و قال الزهري : أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
و قال سعيد بن المسيب : أول من أحدث الأذان في العيد معاوية أخرجه ابن أبي شيبة و قال : أول من نقص التكبي معاوية أخرجه ابن أبي شيبة
و في الأوائل للعسكري قال : معاوية أول من وضع البريد في الإسلام و أول من اتخذ الخصيان لخاص خدمته و أول من عبثت به رعيته و أول من قيل له : السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته الصلاة يرحمك الله و أول من اتخذ ديوان الخاتم و ولاه عبيد الله بن أوس الغساني و سلم إليه الخاتم و على فصه مكتوب : لكل عمل ثواب و استمر ذلك في الخلفاء العباسين إلى آخر وقت و سبب اتخاذه له أنه أمر لرجل بمائة ألف ففك الكتاب و جعله مائني ألف فلما رفع الحساب إلى معاوية أنكر ذلك و اتخذ ديوان الخاتم من يومئذ و هو أول من اتخذ المقصورة بالجامع و أول من أذن في تجريد الكعبة و كانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء
و أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن أخي الزهري قال : قلت للزهري : من أول من استحلف في البيعة ؟ قال : معاوية استحلفهم بالله فلما كان عبد الملك بن مروان استحلفهم بالطلاق و العتاق
و أخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر قال : قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمر و ابن عباس و عبد الرحمن بن أبي بكر فأقبلوا عليه و أعرض عنه ابن عباس فقال : و أنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض و ابن عمه فقال ابن عباس : و لم ؟ ألتقدم في الإسلام أم سابقة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قرابة منه قال : لا و لكني ابن عم المقتول قال فهذا أحق به يريد ابن أبي بكر قال : إن أباه مات موتا قال : فهذا أحق به يريد ابن عمر قال : إن أباه قتله كافر قال : فذاك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه
و قال عبد الله بن محمد بن عقيل : قدم معاوية المدينة فلقيه أبو قتادة الأنصاري فقال معاوية : تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار قال : لم يكن لنا دواب قال : فأين النواضح ؟ قال : عقرناها في طلبك و طلب أبيك يوم بدر ثم قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا [ إنكم سترون بعدي أثرة قال معاوية : فما أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر ] قال : فاصبروا فبلغ ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال :
ألا أبلغ معاوية بن حرب . أمير المؤمنين نبا كلامي
فإنا صابرون و منظروكم . إلى يوم التغابن و الخصام
و أخرج ابن أبي الدنيا و ابن عساكر [ عن جبلة بن سحيم قال : دخلت على معاوية بن أبي سفيان ـ و هو في خلافته ـ و في عنقه حبل و صبي يقوده فقلت له : يا أمير المؤمنين أتفعل هذا ؟ قال : يا لكع اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان له صبي فليتصاب له ] قال ابن عساكر : غريب جدا
و أخرج ابن أبي شيبة في المنصف عن الشعبي قال : دخل شاب من قريش على معاوية فأغلط عليه فقال له : يا ابن أخي أنهاك عن السلطان إن السلطان يغضب غضب الصبي و يأخذ أخذ الأسد
و أخرج عن الشعبي قال : قال زياد : استعملت رجلا فكثر خراجه فخشي أن أعاقبه ففر إلى معاوية فكتبت إليه : أن هذا أدب سوء لمن قبلي فكتب إلي : إنه ليس ينبغي لي و لا لك أن نسوس الناس بسياسة واحدة : أن نلين جميعا فتمرح الناس في المعصية على المهالك و لكن تكون لشدة و الفظاظة و أكون للين و الرأفة
و أخرج عن الشعبي قال : سمعت معاوية يقول : ما تفرقت أمة قط إلا ظهر أهل الباطل على أهل الحق إلا هذه الأمة
و في الطيوريات عن سليمان المخزومي قال : أذن معاوية للناس إذنا عاما فلما احتفل المجلس قال : أنشدوني ثلاث أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه فسكتوا ثم طلع عبد الله بن الزبير فقال : هذا مقولا العرب و علامتها أبو خبيب قال : مهيم ؟ قال : أنشدني ثلاثة أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه قال : بثلاث مائة ألف قال : و تساوي ؟ قال : أنت بالخيار و أنت واف كاف قال : هات فأنشده للأفوه الأودي قال :
بلوت الناس قرنا بعد قرن . فلم أر غير ختال و قال
قال : صدق هيه قال :
ولم أر في الخطوب أشد وقعا . و أصعب من معاداة الرجال
قال : صدق هيه قال :
وذقت مرارة الأشياء طرا . فما طعم أمر من السؤال
قال صدق ثم أمر له بثلاثمائة ألف
و أخرج البخاري و النسائي و ابن حاتم في تفسيره و اللفظ له من طرق أن مروان خطب بالمدينة و هو على الحجاز من قبل معاوية فقال : إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيا حسنا و إن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر و عمر ـ و في لفظ : سنة أبي بكر و عمر ـ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنة هرقل و قيصر إن أبا بكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها معاوية إلا رحمة و كرامة لولده فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها كذب مروان ما فيه نزلت و لكن في فلان بن فلان و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن أبا مروان ـ و مروان في صلبه ـ فمروان بعض من لعنة الله
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عروة قال : قال معاوية : لاحلم إلا التجارب و أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال : دهاة العرب أربعة : معاوية و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و زياد فأما معاوية فللحلم و الأناة و أما عمرو فللمعضلات و أما المغيرة فللمبادهة و أما زياد فللكبير و الصغير
و أخرج أيضا عنه قال : كان القضاة أربعة و الدهاة أربعة فأما القضاة : فعمر و علي و ابن مسعود و زيد بن ثابت و أما الدهاة فمعاوية و عمرو بن العاص و المغيرة و زياد و أخرج عن قبيصة بن جابر قال : صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أقرأ لكتاب الله و لا أفقه في دين الله منه و صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى لجزيل مال من غير مسأله منه و صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلما و لا أبطأ جهلا و لا أبعد أناة منه و صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أنصع طرفا و لا أحلم جليسا منه و صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها
و أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أن عقيل بن أبي طالب سأل عليا فقال : إني محتاج و أني فقير فأعطني فقال : اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم فألح عليه فقال لرجل : خذ بيده و انطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل : دق هذه الأقفال و خذ ما في هذه الحوانيت قال : تريد أن تتخذني سارقا ؟ قال : و أنت تريد أن تتخذني سارقا ؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكما دونهم قال : لآتين معاوية قال : أنت و ذاك فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال : اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به علي و ما أوليتك فصعد فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه و إني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه
و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عقيلا دخل على معاوية فقال معاوية : هذا عقيل و عمه أبو لهب فقال عقيل : هذا معاوية و عمته حمالة الحطب
و أخرج ابن عساكر عن الأوزاعي قال : دخل خريم بن فاتك على معاوية و مئزره مشمر و كان حسن الساقين فقال معاوية : لو كانت هاتان الساقان لامرأة ! فقال خريم في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين
● من مات في عهده من الأعلام
مات في أيام معاوية من الأعلام : صفوان بن أمية و خفصة و أم حبيبة و صفية و ميمونة و سودة و جويرية و عائشة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم و لبيد الشاعر و عثمان بن طلحة الحجبي و عمرو بن العاص و عبد الله بن سلام الحبر و محمد بن مسلمة و أبو موسى الأشعري و زيد بن ثابت و أبو بكرة و كعب بن مالك و المغيرة بن شعبة و جرير البجلي و أبو أيوب الأنصاري و عمران بن حصين و سعيد بن زيد و أبو قتادة الأنصاري و فضالة بن عبيد و عبد الرحمن بن أبي بكر و جبير بن مطعم و أسامة بن زيد و ثوبان و عمرو بن حزم و حسان بن ثابت و حكيم بن حزام و سعد بن أبي وقاص و أبو اليسر و قثم بن العباس و أخوه عبيد الله و عقبة بن عامر و أبو هريرة سنة تسع و خمسين و كان يدعو : اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين و إمارة الصبيان فاستجيب له و خلائق آخرون رضي الله عنهم
● [ يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ] ●
60هـ ـ 64هـيزيد بن معاوية : أبو خالد الأموي ولد سنة خمس أو ست و عشرين كان ضخما كثير اللحم كثير الشعر و أمه ميسون بنت بحدل الكليبة
روى عن أبيه و عنه : ابنه خالد و عبد الملك بن مروان جعله أبوه ولي عهده و أكره الناس على ذلك كما تقدم قال الحسن البصري : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت و نال من القراء فحكم الخوارج فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة
و المغيرة بن شعبة : فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا فأبطأ عنه فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك ؟ قال أمر كنت أوطئه و أهيئه قال : و ما هو ؟ قال : البيعة ليزيد من بعدك ! قال : أو قد فعلت ؟ قال نعم قال : ارجع إلى عملك فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك ؟ قال : وضعت رجل معاوية في غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة
قال الحسن : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم و لولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة و قال ابن سيرين : وفد عمرو بن حزم على معاوية فقال له : أذكرك الله في أمة محمد صلى الله عليه و سلم بمن تستخلف عليها فقال : نصحت و قلت برأيك و إنه لم يبق إلا ابني و أبناؤهم و ابني أحق و قال عطية بن قيس : خطب معاوية فقال : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت و أعنه و إن كنت إنما حملني حب الوالد لولده و أنه ليس لما صنعت به أهلا فأقبضه قبل أن يبلغ ذلك فلما مات معاوية بايعه أهل الشام ثم بعث إلى أهل المدينة من يأخذ له البيعة فأبى الحسين و ابن الزبير أن يبايعاه و خرجا من ليلتهما إلى مكة
فأما ابن الزبير فلم يبايع و لا دعا إلى نفسه و أما الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية و هو يأبى فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما يجمع الإقامة مرة و يريد المسيرة إليهم أخرى فأشار عليه ابن الزبير بالخروج و كان ابن عباس يقول له : لا تفعل و قال له ابن عمر : لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم خيره الله بين الدنيا و الآخرة فاختار الآخرة و إنك بضعة منه و لا تنالها ـ يعني الدنيا ـ و اعتنقه و بكى و ودعه فكان ابن عمر يقول : غلبنا حسين بالخروج و لعمري لقد رأى في أبيه و أخيه عبرة و كلمة في ذلك أيضا جابر بن عبد الله و أبو سعيد و أبو واقد الليثي و غيرهم فلم يطع أحد منهم و صمم على المسير إلى العراق فقال له ابن عباس : و الله إني لأظنك ستقتل بين نسائك و بناتك كما قتل عثمان فلم يقبل منه فبكى ابن عباس و قال : أقررت عين ابن الزبير و لما رأى ابن عباس عبد الله بن الزبير قال له : قد أتى ما أحببت هذا الحسين يخرج و يتركك و الحجاز ثم تمثل :
يا لك من قنبرة بمعمر . خلا لك الجو فبيضي و اصفري
و نقري ما شئت أن تنقري
و بعث أهل العراق إلى الحسين الرسل و الكتب يدعونه إليهم فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة و معه طائفة من آل بيته رجالا و نساء و صبيانا فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله فوجه إليه جيشا أربعة آلاف عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فخذله أهل الكوفة كما هو شأنهم مع أبيه من قبله فلما رهقه السلاح عرض عليه الاستسلام و الرجوع و المضي إلى يزيد فيضع يده في يده فأبوا إلا قتله فقتل و جيء برأسه في طست حتى وضع بين يدي ابن زياد لعن الله قاتله و ابن زياد معه و يزيد أيضا
و كان قتله بكربلاء و في قتله قصة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها فإنا لله و إنا إليه راجعون و قتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته
و لما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام و الشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة و الكواكب يضرب بعضها بعضا و كان قتله يوم عاشوراء و كسفت الشمس ذلك اليوم و احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ثم لا زالت الحمره ترى فيها بعد ذلك و لم تكن ترى فيها قبله
و قيل : إنه لم يقلب حجر بيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط و صار الورس الذي في عسكرهم رمادا و نحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران و طبخوها فصارت مثل العلقم و تكلم رجل بالحسين بكلمة فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره قال الثعالبي : روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال : رأيت قي هذا القصر ـ و أشار إلى قصر الإمارة بالكوفة ـ رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك فحدثت بهذا الحديث عبد الملك فتطير منه و فارق مكانه
و أخرج الترمذي [ عن سلمى قالت : دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام ـ و على رأسه و لحيته التراب ـ فقلت ما لك يا رسول الله ؟ قال : شهدت قتل الحسين آنفا ]
و أخرج البيهقي في الدلائل [ عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بنصف النهار أشعث أغبر ـ و بيده قارورة فيها دم ـ فقلت : بأبي و أمي يا رسول الله ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم ] فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ
و أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أم سلمة قالت : سمعت الجن تبكي على حسين و تنوح عليه
و أخرج ثعلب في أماليه عن أبي خباب الكلبي قال : أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب : أخبرني بما بلغني أنكم تسمعون نوح الجن فقال : ما تلقى أحد إلا أخبرك أنه سمع ذلك قلت : فأخبرني بما سمعت أنت قال : سمعتهم يقولون :
مسح الرسول جبينه . فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قري . ش وجده خير الجدود
و لما قتل الحسين و بنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد فسر بقتلهم أولا ثم ندم لما مقته المسلمون على ذلك و أبغضه الناس و حق لهم أن يبغضوه
و أخرج أبو يعلى في مسنده بسند ضعيف [ عن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يزال أمر أمتي بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له : يزيد ]
و قال نوفل بن أبي الفرات : كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية فقال : تقول أمير المؤمنين ؟ و أمر به فضرب عشرين سوطا
و في سنة ثلاث و ستين بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه و خلعوه فأرسل إليهم جيشا كثيفا و أمرهم بقتالهم ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير فجاؤوا و كانت وقعة الحرة على باب طيبة و ما أدراك ما وقعة الحرة ؟ ذكرها الحسن مرة فقال : و الله ما كاد ينجوا منهم أحد قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم و من غيرهم و نهبت المدينة و افتض فيه ألف عذراء فإنا لله و إنا إليه راجعون ! قال صلى الله عليه و سلم : [ من أخاف أهل المدينة أخافه الله و عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ] رواه مسلم
و كان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي و أخرج الواقدي من طرق أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال : و الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن يرمى بالحجارة من السماء ! إنه رجل ينكح أمهات الأولاد و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة
قال الذهبي : و لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل ـ مع شربه الخمر و إتيانه المنكرات ـ اشتد عليه الناس و خرج عليه غير واحد و لم يبارك الله في عمره و سار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير فمات أمير الجيش بالطريق فاستخلف عليهم أميرا و أتوا مكة فحاصروا ابن الزبير و قاتلوه و رموه بالمنجنيق و ذلك في صفر سنة أربع و ستين و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل و كان في السقف و أهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام فجاء الخبر بوفاته و القتال مستمر فنادى ابن الزبير : يا أهل الشام إن طاغيتكم قد هلك فانقلوا و ذلوا و تخطفهم الناس و دعا ابن الزبير إلى بيعة نفسه و تسمى بالخلافة و أما أهل الشام فبايعوا معاوية بن يزيد و لم تطل مدته كما سيأتي
ومن شعر يزيد :
آب هذا الهم فاكتنعا ... و أمر النوم فامتنعا
راعيا للنجم أرقبه ... فإذا ما كوكب طلعا
حام حتى إنني لأرى ... أنه بالغور قد وقعا
و لها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
نزهة حتى إذا بلغت ... نزلت من جلق بيعا
في قباب وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
و أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال : أبو بكر الصديق أصبتم اسمه عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه ابن عفان ذو النورين قتل مظلوما يؤتى كفلين من الرحمة معاوية و ابنه ملكا الأرض المقدسة و السفاح و سلام المنصور و جابر و الأمين و أمير الغضب كلهم من بني كعب بن لؤي كلهم صالح لا يوجد مثله قال الذهبي : له طرق عن ابن عمر و لم يرفعه أحد
و أخرج الواقدي عن أبي جعفر الباقر قال : أول من كسا الكعبة الديباج يزيد بن معاوية
مات في أيام يزيد من الأعلام سوى الذين قتلوا مع الحسين و في وقعة الحرة : أم سلمة أم المؤمنين و خالد بن عرفطة و جرهد الأسلمي و جابر بن عتيك و بريدة بن الحصيب و مسلمة بن مخلد و علقمة بن قيس النخعي الفقيه و مسروق و المسور بن مخرمة و غيرهم رضي الله عنهم
و عدة المقتولين بالحرة من قريش و الأنصار ثلاثمائة و ستة رجال
● [ معاوية بن يزيد ] ●
64هـ ـ 64هـمعاوية بن يزيد بن معاوية أبو عبد الرحمن و يقال له : أبو يزيد و يقال أبو ليلى استحلف بعهد أبيه في ربيع الأول سنة أربع و ستين و كان شابا صالحا و لما استخلف كان مريضا فاستمر مريضا إلى أن مات و لم يخرج إلى الباب و لا فعل شيئا من الأمور و لا صلى بالناس و كانت مدة خلافته أربعين يوما و قيل : شهرين و قيل : ثلاثة أشهر و مات و له إحدى و عشرون سنة و قيل : عشرون سنة و لما احتضر قيل له : ألا تستخلف ؟ قال : ما أصبت من حلاوتها فلم أتحمل مرارتها
● [ عبد اله بن الزبير بن العوام ] ●
64هـ ـ 64هـعبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي كنيته أبو بكر و قيل : أبو خبيب ـ بضم الخاء المعجمية ـ صحابي ابن صحابي
و أبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة و أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها و أم أبيه صفية عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولد بالمدينة بعد عشرين شهرا من الهجرة ـ و قيل : في السنة الأولى ـ و هو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة و فرح المسلمون بولادته فرحا شديدا لأن اليهود كانوا يقولون : سحرناهم فلا يولد لهم ولد فحنكه رسول الله صلى الله عليه و سلم بتمرة لاكها و سماه عبد الله و كناه أبا بكر باسم جده الصديق و كنيته و كان صواما قواما طويل الصلاة وصولا للرحم عظيم الشجاعة قسم الدهر ثلاث ليال ليلة يصلي قائما حتى الصباح و ليلة راكعا و ليلة ساجدا حتى الصباح
روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة و ثلاثون حديثا روى عنه أخوه عروة و ابن أبي ملكية و عباس بن سهل و ثابت البناني و عطاء و عبيدة السلماني و خلائق آخرون و كان ممن أبى البيعة ليزيد بن معاوية و فر إلى مكة و لم يدع إلى نفسه لكن لم يبايع فوجد عليه يزيد وجدا شديدا فلما مات يزيد بويع له بالخلافة و أطاعه أهل الحجاز و اليمن و العراق و خراسان و جدد عمارة الكعبة فجعل لها بابين على قواعد إبراهيم و أدخل فيها ستة أذرع من الحجر لما حدثته خالته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يبق خارجا عنه إلا الشام و مصر فإنه بويع بهما معاوية بن يزيد فلم تطل مدته فلما مات أطاع أهلهما ابن الزبير و بايعوه ثم خرج مروان بن الحكم فغلب على الشام ثم مصر و استمر إلى أن مات سنة خمس و ستين و قد عهد إلى ابنه عبد الملك و الأصح ما قاله الذهبي أن مروان لا يعد في أمراء المؤمنين بل هو باغ خارج على ابن الزبير و لا عهده إلى ابنه بصحيح و إنما صحت خلافة عبد الملك من حين قتل ابن الزبير و أما ابن الزبير فإنه استمر بمكة خليفة إلى أن تغلب عبد الملك فجهز لقتاله الحجاج في أربعين ألفا فحصره بمكة أشهرا و رمى عليه بالمنجنيق و خذل ابن الزبير أصحابه و تسللوا إلى الحجاج فظفر به و قتله و صلبه و ذلك يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى ـ و قيل : الآخرة ـ سنة ثلاث و سبعين
و أخرج ابن عساكر عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : إني لفوق أبي قبيس حين وضع المنجنيق على ابن الزبير فنزلت صاعقة كأني أنظر إليها تدور كأنها حمار أحمر فأحرقت من أصحاب المنجنيق نحوا من خمسين رجلا
و كان ابن الزبير فارس قريش في زمانه له المواقف المشهودة
أخرج أبو يعلى في مسنده [ عن ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم فلما فرغ قال له : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد فلما ذهب شربه فلما رجع قال : ما صنعت بالدم ؟ قال : عمدت إلى أخفى موضع فجعلته فيه قال : لعلك شربته ! قال : نعم قال ويل للناس منك و ويل لك من الناس ] فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم
و أخرج عن نوف البكالي قال : إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء
و قال عمرو بن دينار : ما رأيت مصليا أحسن صلاة من ابن الزبير و كان يصلي في الحجر ـ و المنجنيق يصيب طرف ثوبه ـ فما يلتفت إليه
و قال مجاهد : ما كان باب من العبادة يعجز الناس عنه إلا تكلفه ابن الزبير و لقد جاء سيل طبق البيت فجعل يطوف سباحة
و قال عثمان بن طلحة : كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة : لا شجاعة و لا عبادة و لا بلاغة و كان صيتا إذا خطب تجاوبه الجبال
و أخرج ابن عساكر عن عروة أن النابغة الجعدي أنشد عبد الله بن الزبير :
حكيت لنا الصديق لما وليتنا . وعثمان و الفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستوى . فعاد صباحا حالك اللون أسحم
و أخرج عن هشام بن عروة و خبيب قال : أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير و كان كسوتها المسوح و الأنطاع
و أخرج عن عمر بن قيس قال : كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغه و كان ابن الزبير يكلم كل أحد منهم بلغته و كنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجل لم يرد الله طرفه عين و إذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين
و أخرج عن هشام بن عروة قال : كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير ـ و هو صغير ـ السيف فكان لا يضعه من فيه فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول : أما و الله ليكونن لك منه يوم و يوم و أيام
و أخرج عن أبي عبيدة قال : جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين إن بيني و بينك رحما من قبل فلانة فقال ابن الزبير : نعم هذا كما ذكرت و إن فكرت في هذا أصبت الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد و إلى أم واحدة فقال : يا أمير المؤمنين إن نفقتي نفدت قال : ما كنت ضمنت لأهلك إنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم قال : يا أمير المؤمنين ناقتي قد نقبت قال أنجد بها تبرد خفها و ارفعها بسبت و اخفضها بهلب و سر عليها البردين قال : يا أمير المؤمنين إنما جئتك مستحملا و لم آتك مستوصفا لعن الله ناقة حملتني إليك ! فقال ابن الزبير : إن و راكبها فخرج الأسدي يقول :
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن و لا أمية في البلاد
من الأعياص أو من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد
وقلت لصحبتي : أدنوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد
ومالي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد
و أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري قال : لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس إلى المدينة قط و لا يوم بدر و حمل إلى أبي بكر رأس فكره ذلك و أول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير
و في أيام ابن الزبير كان خروج المختار الكذاب الذي ادعى النبوة فجهز ابن الزبير لقتاله إلى أن ظفر به في سنة سبع و ستين و قتله لعنه الله
مات في أيام ابن الزبير من الأعلام : أسيد بن حضير و عبد الله بن عمرو بن العاص و النعمان بن بشير و سليمان بن صرد و جابر بن سمرة و يزيد بن أرقم و عدي بن حاتم و ابن عباس و أبو واقد الليثي و زيد بن خالد الجهني و أبو الأسود الدؤلي و آخرون
60هـ ـ 64هـ
64هـ ـ 64هـ
64هـ ـ 64هـ