كان فى قديم الزمان ، ملك يقال له: عمر النعمان وكان من الجبابرة الكبار وقد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة وكان لا يصطلى له بنار ولا يجاريه أحد في مضمار ، وكان قد ملك الأقطار ، ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار ، ووصلت عساكره إلى الهند والسند والصين وأقصى البلاد ، ودخل في حكمه المشرق والمغرب وما بينهما من واليمن والحجاز والشام وديار بكر وجزائر البحار وما في الأرض من مشاهير وأرسل رسله إلى أقصى البلاد ليأتوا بحقيقة الأخبار فرجعوا وأخبروه بأن الجميع قد أذعن لطاعته وان الجبابرة قد خضعت لهيبته فعمهم بالفضل والامتنان وأشاع بينهم العدل والأمان. وكان للملك عمر النعمان ولد وحيد اسمه شركان ، وقد كان آفة من آفات الزمان وقهر الشجعان وأباد الأقران فأحبه والده حباً شديداً ما عليه من مزيد وأوصى له بالملك من بعده. ثم إن شركان هذا حين بلغ مبلغ الرجال وصار له من العمر عشرون سنة أطاع له جميع العباد لما به من شدة البأس والعناد وكان والده عمر النعمان له اربع نساء بالكتاب والسنة لكنه لم يرزق منهن بغير شركان وهو من إحداهن والباقيات عواقر لم يرزق من واحدة منهن بولد ، ولقد اشتهر شركان في سائر الأنحاء ففرح به والده وازداد قوة فطغى وتجبر وفتح الحصون والبلاد واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري النعمان قد حملت واشتهر حملها وعلم الملك بذلك ففرح فرحاً شديداً وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون منها ، فأرخ يوم حملها وصار يحسن إليها فعلم شركان بذلك فاغتم وعظم عليه الأمر ، وخاف ان تلد الجارية ذكر ينازعه في المملكة ، فأضمر فى نفسه ان يقتل ولد الجارية إذا كان ذكرآ ، هذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر الجارية فإنها كانت رومية وقد وقعت فى الأسر ضمن الغنائم التى غنمها جنود الملك النعمان فى الحرب مع الملك أفريدون صاحب البلاد اليونانية والمقيم بمملكة القسطنطينية وكانت جميلة عليها اثار النعمة فجعلها النعمان ضمن جواريه وهو لا يعلم انها ابنة افريدون ، وقد اخفت هى ذلك خوفآ من ان ينالها الأنتقام ، وقد اسلمت فأطلق عليها النعمان اسم صفية ، وكانت أحسن الجواري وأجملهن وجهاً وأصونهن عرضاً وكانت ذات عقل راجح وجمال باهر وكانت تخدم الملك ليلة مبيته عندها وتقول له: أيها الملك اتمنى من الله أن يرزقك مني ولد حتى أحسن تربيته لك فيكون الطريق الى عتقى ، وكان الملك يعجبه كلامها . وكانت صفية على صلاح تحسن العبادة فتصلي وتدعو الله أن يرزقها بولد ذكر صالح ويسهل عليها ولادته ، فما زالت كذلك حتى اكتملت أشهر حملها ، وكان الملك قد وكل من يخبره بما تضعه هل هو ذكر أو أنثى وكذلك ولده شركان كان قد أرسل من يعرف فيخبره بذلك ، فلما وضعت صفية مولودها تأملته القوابل فوجدنه بنتاً بوجه أبهى من القمر، فأعلمن الحاضرين بذلك فرجع رسول الملك وأخبره بذلك وكذلك رسول شركان أخبره بذلك ، فحزن الملك لكون المولود انثى ، بينما فرح شركان فرحاً شديداً. فلما انصرف الخدام تأوهت صفية وجاءها الطلق ثانياً وسهل الله عليها فوضعت مولوداً ثانياً فنظرت إليه القوابل فوجدته ذكراً يشبه البدر بجبين أزهر وخد أحمر مورد ففرح به كل من حضر وأطلقوا الزغاريد في القصر . وبلغ عمر النعمان الخبر ففرح واستبشر وقام ودخل عليها ثم حمل المولود ونظر إليه ثم انحنى وقبله واطلق عليه اسم ضوء المكان وأخته نزهة الزمان ، ورتب لهما من يخدمهما من المراضع والخدم والحشم . واقيمت الزينات وأقبل الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وهنئوا الملك عمر النعمان بولده ضوء المكان وبنته نزهة الزمان فشكرهم الملك على ذلك وخلع عليهم وزاد إكرامهم من الأنعام وأحسن إلى الحاضرين من الخاص والعام، ولم يكن شركان قد علم أن والده عمر النعمان رزقه الله ولداً ذكراً وانما كان علمه فقط بالأنثى وهى نزهة الزمان ، وذلك ان شركان خرج لحرب الروم بعد ان تعرض بعض القراصنة وفيهم عساكر من الروم لمركب محملة بالتحف والزخائر للملك عمر النعمان وأخذوا جميع ما فيها من التحف والأموال والذخائر وقتلوا الرجال فبلغ ذلك الملك النعمان فأرسل إلى ولده شركان فلما حضر قص عليه الخبر وأوصاه بأخذ الأهبة والتجهيز للسفر وارسل معه الوزير دندان وامره ان لا يخالف الوزير دندان فيما يشور به عليه وأمره أن ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدة صابرين على الشدة فامتثل شركان ما قاله والده عمر النعمان وقام في الوقت والحال واختار من عسكره عشرة آلاف فارس ثم دخل قصره وأخرج مالاً جزيلاً وأنفق عليهم المال وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام فخرجوا من عنده وأخذوا من الأهبة وإصلاح الشأن ثم إن شركان دخل خزائن السلاح وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، ثم دخل الإصطبل واختار منه الخيل المسالمة وأخذ غير ذلك وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام ثم خرجت العساكر إلى ظاهر المدينة وخرج الملك عمر النعمان لوداع ولده شركان وأقبل على الوزير دندان وأوصاه بعسكر ولده شركان ، وان لا يقتربوا من اسوار القسطنطينية بل يكتفوا بمحاصرتها وقطع طريق البر اليها ، فمن خرج اليهم من جند الروم خارج الأسوار قاتلوهم واسوا منهم ، فأجابه بالسمع والطاعة وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير دندان في سائر الأمور، وان لا ينفرد بالأمر دونه ، فقبل ذلك ثم رجع والنعمان إلى داخل المدينة، اما شركان فقد أمر كبار العسكر بعرضهم عليه وكان عددهم عشرة آلاف فارس غير ما يتبعهم من العبيد ، ثم إمر بدق الطبول وصاح النفير وانتشرت الأعلام تخفق على رؤوسهم ولم يزالوا سائرين والرسل تقدمهم إلى أن ولى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا وباتوا تلك الليلة. فلما اصبح الصباح ركبوا وساروا ولم يزالوا سائرين، والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يوماً ثم أشرفوا في اليوم الحادي والعشرين على واد واسع الجهات كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذات الوادي ليلاً فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه للإستعداد لمحاصرة القسطنطينية ، فنزل العساكر وضربوا الخيام وافترق العسكر يميناً وشمالاً ونزل الوزير دندان وما يتبعه من القادة ، في وسط ذلك الوادي وأما شركان فقد أرخى عنان جواده وأراد أن يكشف ذلك الوادي، ويستطلع الأمر بنفسه لأجل وصية والده إياه فإنهم في أول بلاد الروم وأرض العدو فسار وحده ، وكان شركان من عادته اذا خرج للحرب ان لا يلبس لبس القتال بل يلبس لبس التجار ومعه سيفه البتار حتى يخفى عن العدو شخصيته ، ولم يزل شركان سائراً على ظهر جواده في جوانب الوادي المظلم ، إلى أن مضى من الليل ربعه فتعب وغلب عليه النوم فأخذ يترنح على ظهر جواده ولم يزل الجواد سائراً به إلى نصف الليل فدخل به في بعض المغارات ولم ينتبه شركان حتى دق الجواد بحافره في الأرض فاستيقظ شركان وتنبه ، وفوجد نفسه داخل المغارة وابصر ضوء خافت ينبعث من داخل المغارة ، فواصل المسير الى جهة الضوء ، فإذا به ضوء القمر فقد خرج شركان من المغارة ولكن من مدخل غير الذى دخل اليها منه ، وقد طلع عليه القمر وأضاء في الخافقين فاندهش شركان واخذ ينظر حوله ، فوجد نفسه قد تعدى السور الأول من اسوار القسطنطينية ودخل اليها لأول مرة فى حياته ، فلما رأى نفسه في ذلك المكان وقف متحيرآ ، وهو لا يدري أين يتوجه وقد فقد طريق العودة ، فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ونزل عن جواده ومشى حتى أشرف على نهر الماء الذى جعله الروم بين السورين ليحصنوا به القسطنطينية ، فنظر شركان إلى ذلك المكان فرأى قلعة شاهقة في الهواء في ضوء القمر وبينها وبينه جسر معمول بأخشاب من الجوز وفيه بكر بسلاسل من البولاد وعليها أقفال في كلاليب ولم يزال سائرآ حتى وصل إلى باب مقنطر ، وما ان وصل الى الباب حتى سقطت عليه الشباك من اعلى الباب فوقع فيها ، وارتفعت به الشباك فأصبح معلقآ فى الهواء واستمر على ذلك حتى غاب الليل وجاء ضوء النهار ، فتم فتح الباب فالتفت فرأي رجالاً مقبلين بأيديهم السيوف مسلولة تلمع وهم يقولون بلسان رومية: وقعت عندنا يا شركان ، فأيقن شركان الهلاك ، وقال فى نفسه: أنا الذي جنيت على نفسي وألقيتها في الهلاك ، ولكن كيف عرفونى وانا فى ثياب التجار ، ثم انزلوه واخرجوه من الشباك وقيدوه ، فقال له كبير الجند : الست شركان ابن الملك عمر النعمان هذا الذي فتح القلاع وملك كل حصن منيع ، وقد حضرت لحرب عسكر الروم . فقال شركان: من قال لكم هذا ، فضحك كبير الجند وقال: ليس هذا وقت إطالة الكلام والملك منتظر رجوعنا إليه بك لينظر فى امرك ، ثم دخلوا به الى القسطنطينية والناس قد اجتمعت تنظر اليه ويقولون: اقتلوه لكى يرحل عسكره وتضعف قوتهم ويعودوا من حيث اقبلوا ، والمكان حوله مزركش بأنواع النبات ، والطيور تمرح وبلغاتها تشجوا ، وشركان تنظر اليهم حتى وصل الى دهليز طويل مقبى على عشر قناطر معقودة وعلى كل قنطرة قنديل من البلور يشتعل كاشتعال الشمس، ثم دخل الى قاعة فسيحة عليها ستور مكللة بالذهب والأرض مفروشة بأنواع الرخام المجزع، وفي وسطها بركة ماء عليها أربع وعشرين قارورة من الذهب والماء يخرج منها ورأى في الصدر الملك افريدون جالسآ على كرسيه والوزير الى جواره واقفآ ، فلما وقف شركان امام افريدون ، قال له الوزير: ما سبب حضورك بجنودك يا شركان ، فقال له شركان: ما سرقت جنودكم من مركب الملك ، فقال له الوزير: وما يدرينا انك شركان وانت فى ثياب التجار ولا تحمل شارة او تاج ، فقال شركان: اختر من جنودكم ما تشاء ثم دعنى اقاتلهم ، فإن قتلونى فما انا بشركان وان قتلتهم فرد لى ما سلبت جنودك من مراكب الملك ولا قتال بيننا ، فأشار افريدون الى وزيره فقال الوزير: لك ما اردت ، فقال شركان : فلتبرزون لي واحدآ واحدآ ، ثم وثب على قدميه وسار إلى أن أقبل عليهم وكان معه سيفه وآلة حربه، فلما رآه كبير الجند وثب إليه وحل عليه فإستقبله شركان كأنه الأسد وضربه بالسيف على عاتقه فخرج السيف يلمع من أمعائه، فقال الوزير : خذوا بثأر صاحبكم فخرج له أخو المقتول وكان جباراً عنيداً فحمل على شركان فلم يمهله شركان دون أن ضربه بالسيف على عاتقه فخرج السيف يلمع من أمعائه ، فلم يزالوا يبرزوا إليه واحداً بعد واحد وشركان يلعب فيهم بسيفه حتى قتل منهم خمسين والملك ينظر وقد قذف الله الرعب في قلوبه وقلوب من بقي من جنده وقد تأخروا عن البراز ولم يجسروا على البراز إليه ، فقال له الوزير : قد اسرتم ابنة مولاى الأميرة ماريا ، فإن تردوها نرد لكم ما سلبت الجنود من كنوز المركب ، فتعجب شركان وقال: ما اسرنا ابنة الملك ولو كنا قد اسرناها لسارعنا بردها ، فلما وصفها الوزير لشركان بوصفها علم انها صفية فقال له: هى الأميرة صفية ، وتعيش فى قصر الملك معززة مكرمة ولم تخبرنا بخبرها فنردها لكم ، فقال الوزير: قد علمت ما نريد ، فقال شركان: يوجد فى صندوق الجواهر ثلاث جواهر هى من ميراث اجدادى ، ولن ارحل بدونها ، فردوها اظهارآ لحسن النية ، وتبقى باق كنوز المركب لحين حضورى مع الأميرة ، فوافق الملك وردها ليه ، فوضعها شركان فى ثيابه واحكم عليها ، ثم قفز على جواده وانطلق ، يتقدمه احد الجنود ليدله على الطريق ، متوجهاً إلى الجسر فلما وصل إليه مر من فوقه ودخل الى المغارة ، فتركه الدليل وعاد من حيث اتى ، فلما خرج شركان من المغارة إذا هو بثلاثة فوارس فأخذ لنفسه الحذر منهم واشهر سيفه وانحدر فلما قربوا منه ونظر بعضهم بعضاً عرفوه وعرفهم ووجد أحدهم الوزير دندان ومعه أميران من امراء الجند وعندما عرفوه ترجلوا له وسلموا عليه وسأله الوزير دندان عن سبب غيابه فأخبره بجميع ماجرى له من أوله إلى آخره فحمد الله تعالى على ذلك ثم قال شركان: ارحلوا بنا من هذه البلاد فلم تعد لنا حاجة فيها ثم نادى شركان في عسكره بالرحيل فرحلوا كلهم ولم يزالوا سائرين مجدين في السير خذرين من ان يباغتهم الروم حتى وصلوا إلى سطح الوادي ثم سافر شركان بعسكره مدة خمسة وعشرين يوماً حتى أشرفوا على أوائل بلادهم فلما وصلوا هناك أمنوا على أنفسهم ونزلوا لأخذ الراحة فخرج إليهم أهل تلك البلاد بالضيافات وعليق البهائم ثم أقاموا يومين ورحلوا طالبين ديارهم وتأخر شركان بعدهم في مائة فارس وجعل الوزير دندان أميراً على من معه من الجيش فسار الوزير دندان بمن معه مسيرة يوم ثم بعد ذلك ركب شركان هو والمائة فارس الذين معه، وساروا مقدار فرسخين حتى وصلوا إلى محل مضيق بين جبلين وإذا أمامهم غبرة وعجاج فمنعوا خيولهم من السير مقدار ساعة حتى انكشف الغبار وبان من تحته مائة فارس ليوث عوابس وفي الحديد والزرد غواطس فلما قربوا من شركان ومن معه صاحوا عليهم وقالوا: قد بلغنا ما أملناه ونحن خلفكم مجدون السير ليلاً ونهاراً حتى سبقناكم إلى هذا المكان فانزلوا عن خيولكم وأعطونا أسلحتكم والثلاث جواهر حتى نجود عليكم بأرواحكم . فلما سمع شركان ذلك الكلام لاجت عيناه واحمرت وجنتاه وقال لهم: يا كلاب الروم كيف تجاسرتم علينا وجئتم بلادنا ومشيتم أرضنا وما كفاكم ذلك حتى تخاطبونا بهذا الخطاب أظننتم أنكم تخلصون من أيدينا وتعودون إلى بلادكم ، ثم صاح على المائة فارس الذين معه وقال لهم: دونكم وهؤلاء الكلاب فإنهم في عددكم ثم سل سيفه وحمل عليهم وحملت معه المائة فارس فاستقبلتهم الإفرنج بقلوب أقوى من الصخر واصطدمت الرجال بالرجال والتحم القتال واشتد النزال وعظمت الأهوال وقد بطل القيل والقال ولم يزالوا في الحرب والكفاح والضرب بالصفاح حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار فانفصلوا عن بعضهم واجتمع شركان بأصحابه فلم يجد أحداً منهم مجروحاً غير أربعة أنفس حصل لهم جراحات بسيطة . فقال لهم شركان: في غد نصطف ونبارزهم فها نحن مائة وهم مائة ونطلب النصر عليهم من الله ، وبات شركان فى جنوده تلك الليلة على ذلك الاتفاق ، وفى الصباح صف شركان رجاله فى انتظار الروم ولكن الروم كانوا قد رحلوا فى الليل ، وإستكشف شركان المكان فلم يجد لهم اثر فأرسل جماعة من أصحابه ليخبر والده عمر النعمان بقدومه ، فلما قدم شركان ودخل على والده الملك عمر النعمان ، سأله واله عن الجواهر الثلاث ، فأخرجها شركان من بين اثوابه وقدمها لأبيه ، فأعطاه الملك واحدة من الجواهر الثلاث وأخبره ان الاثنتين الأخريين واحدة لأخيه ضوء المكان والأخرى لأخته نزهة الزمان . فلما سمع شركان أن له أخاً يسمى ضوء المكان وما كان يعرف إلا أخته نزهة الزمان ، التفت إلى والده الملك النعمان وقال له: هل للملك ولد غيري ، فقال: نعم ، هو توئم نزهت الزمان وقد خرجت للحرب قبل ان تعلم بمولده ، فقال له شركان: ان صفية هى ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية وقد طلبها ، فهل ترحل بولدها ام تتركه ، وهل يقبل الناس بأمير امه جارية من الروم وان كانت ابنة ملك ، فتعجب الملك النعمان وقال له: ولماذا لم تخبرنا بذلك ، وعلى كل حال فإبنها اخوك ، فصعب ذلك على شركان وظهر غضبه الذى حاول ان يخفيه ، وتعمد ان تسقط الجوهرة من يده وهو ينفض أثوابه ، فقال له الملك: مالي أراك قد تغيرت مع أنك ولى عهدى وصاحب المملكة من بعدي وقد اوصيت لك بذلك وعلمه الجميع ، فأطرق شركان برأسه إلى الأرض وانصرف دون ان يلتقط الجوهرة من الأرض ، وقد تملكه الغضب ومازال ماشياً حتى دخل قصر جدته الملكة ام ابيه فلما أقبل عليها نهضت إليه قائمة وشكرته على حضوره وباركت له انتصاره ودعت له ولوالده وجلست وأجلسته في جانبها فلما استقر به الجلوس رأت في وجهه الهم والغيظ فسألته عن حاله، وما سبب همه وغيظه فأخبرها أن والده الملك كان قد اخفى عنه ان الله قد رزقه من صفية ولدآ ذكرآ وهو ضوء المكان إضافة الى الأنثى وهى نزهة الزمان وانه أعطاهما جوهرتين وأعطاه واحدة فتركها له وخرج غاضبآ بعد ان ساوى بينه وبين ابن الجارية ، فقالت له: قد احسن والدك اليك بأن اعطاك جوهرة من الجواهر الثلاث ، فلم يخطر ببالى يومآ انه يمكن أنه ينعم علي أحد من أولاده بشيء منها وما ظننت إلا أنه يجعلها في خزائنه مع ذخائره فهى من ميراث اجدادك ، وقد عدل والدك بينكم بأن اعطى كل واحد واحدة ، ولا تقل ابن الجارية ، فإن ضوء المكان اخوك ابن الملك النعمان ، وانت وريث العرش من بعد ابيك ، فلا تغضب ، فقد حجب عنك الغضب هذه الحقائق ، ثم امرت الملكة الأم الجواري بإحضار الطعام فقدمن المائدة فأكل شركان شيئاً يسيراً ومضى إلى قصره مهموماً مغموماً، هذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر أبيه عمر النعمان فإنه بعد انصراف ولده شركان من عنده قام ودخل على صفية ومعه تلك الجوهرتان فلما رأته نهضت قائمة على قدميها إلى أن جلس فأقبل عليه ولداه ضوء المكان ونزهة الزمان فلما رآهما قبلهما وعلق على كل واحد منهما جوهرة ففرحا بها وقبلا يديه وأقبلا على أمهما ففرحت بهما ودعت للملك بطول الدوام فقال لها الملك: يا صفية ، لماذا لم تخبرينى أنك ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية لأزيد في إكرامك وارفع منزلتك ، فلما سمعت صفية ذلك قالت: أيها الملك وماذا أريد أكثر من هذا زيادة على هذه المنزلة التي أنا فيها، فها أنا مغمورة بأنعامك وخيرك وقد رزقني الله منك بولدين ذكر وأنثى، فأعجب الملك عمر النعمان كلامها واستظرف عذوبة ألفاظها ودقة فهمها وظرف أدبها ومعرفتها ، فتشجع وقال لها: ان والدك يطلبك ، ولا استطيع ان امنعك عنه ، ففزعت صفية وقالتله: ايها الملك اطال الله عمرك ، انا الأن ام ولى الملك ولست ابنة افريدون ، فأعجب النعمان قولها فسكت وأمر ان يخصص لها ولأولادها قصراً عجيباً كان قد بناه الملك لضيافة الملوك ، ورتب لها الخدم والحشم بما يليق بها ، واخذ الملك يتفقد أولاده كل يوم ويكرمهم وكان قد أحضر العلماء والحكماء ليعلموهم العلم، ورتب لهم الرواتب فلما رأى شركان ذلك الأمر غضب غضباً شديداً وحسد أخوته على ذلك إلى أن ظهر أثر الغيظ في وجهه . فقال له والده: مالي أراك تزداد ضعفاً في جسمك واصفرار في لونك ، فقال له شركان: لا اطيق ما اراه من عنايتك بأولاد صفية ، وأخاف أن يزيد بي الحسد فأقتلهم وتقتلني أنت بسببهم إذا أنا قتلتهم فمرض جسمي وتغير لوني بسبب ذلك، فأشتهي من أحسانك أن تعطيني قلعة من القلاع حتى أقيم بها بقية عمري، حيث لا تنظر عينى ولا يحزن قلبى . ثم أطرق برأسه إلى الأرض. فلما سمع الملك عمر النعمان كلامه عرف سبب ما هو فيه من التغير أخذ بخاطره وقال له: كيف تبعد وانت وريث عرشى ، فقال: اتدرب على الملك ، واطال الله عمر الملك ، فقال النعمان: لك ما تريد ، وليس في ملكي أنسب لك من قلعة دمشق ، فهى قلعة منيعة الحصون ، فإذهب اليها فهى طلبك الذى تريده ، ثم جهزه وأرسل الوزير دندان معه وأوصاه بنصحه والولاء له وطاعته واحسان النصيحة له ، ثم ودعه وودعته الأمراء وأكابر الدولة وسار بالعسكر حتى وصل إلى دمشق ، فلما وصل إليها خرج الناس لإستقباله والحفاوة به ، صاح الجنود بالبوقات ، وقابلوه بموكب عظيم سار فيه الجنود وأهل المدينة يحيطون بشركان ويهتفون بحياته . حتى وصل شركان الى مقامه فى القلعة ، والجنود تحيط به وتهتف بأسمه والولاء له ولوالده الملك. ومرت الأيام وكبر ضوء المكان وترعرع وركب الخيل وصار له من العمر أربع عشر سنة وطلع مشتغلاً بالعبادة محباً للفقراء وأهل العلم والقرآن، وصار الجميع بحبونه ويقدرونه ، وحدث ان طاف محمل الحجاج ، فلما رأى ضوء المكان مركب المحمل اشتاق إلى الحج وخاف ان يستأذن والده في الخروج للحج ، فيقول له : اصبر إلى العام القابل فأعينك امير للحج وأوصى بك اهل المحمل ، فقد تعين امير المحمل لهذا الموسم ولا يصح ان اغيره ، لذلك قرر ضوء المكان ان يخبر اخته نزهة الزمان، بخروجه متخفيآ مع الحجاج ، لتخبر اباها فيما بعد ، فتوجد اليها فوجدها قائمة تصلي فلما قضت الصلاة قال لها: إني قد قتلني الشوق إلى حج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام واخاف ان استأذن والدي فيمنعني من ذلك، واريد أن أخرج إلى الحج سراً ، فإذا غادرت فأخبريه ، فقالت له أخته: خذني معك ولا تحرمني حج بيت الله وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اذا خرجتى معى فمن يخبر ابى ، انتظرى حتى تخرجى مع ابى العام القابل ، ثم انصرف ، ولكن نزهة الزمان انتظرت حتى مر نصف الليل ثم قامت وكتبت لوالدها كتاب تخبره فيه بخروجهما للحج ، ثم أخذت شيئاً من المال ولبست لباس الرجال ومشت متوجهة إلى باب القصر فوجدت أخاها ضوء المكان قد جهز الجمال فقالت له: خذنى معك ، فخاف ضوء المكان ان يتم اكتشاف امره ، فركب وأركبها وسارا ليلاً واختلطا بالحجيج ومشيا إلى أن صارا في وسط الحجاج ، ولا يعلم احد بوجودهما ، وما زالا سائرين ضمن الحجاج ، حتى دخلا مكة المشرفة ووقفا بعرفات وقضيا مناسك الحج ثم توجها إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فزاراه، وبعد ذلك أرادا الرجوع مع الحجاج إلى بلادهما ، ولم يزالا سائرين إلى أن أدخلا بيت المقدس فمرض ضوء المكان واشتدت عليه الحمى ، فنزلا في خان هناك واكتريا لهما فيه حجرة واستقرا فيها ولم يزل المرض يتزايد على ضوء المكان حتى أنحله وغاب عن الدنيا . فاغتمت لذلك أخته نزهة الزمان وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا حكم الله ، فقعدت هي وأخوها في ذلك المكان وقد زاد به الضعف وهي تخدمه وتنفق عليه وعلى نفسها من المال الذى احضرته معها ، حتى فرغ ما معها من المال وافتقرت ولم يبق معها من المال غير دينار وكانت قافلة المحمل الحجازية قد رحلت وتركتهما ، دون ان يتنبه احد لغيابهما ، فقالت نزهة الزمان: ليس امامنا غير ان نظهر للناس امرنا ، ويعلموا من نكون ، فقال ضوء المكان: اموت ولا افعل ذلك ، فكيف يرانى الناس فى هذه الحالة ، وانا اميرهم وابن ملكهم ، فقامت نزهة الزمان وغطت رأسها بقطعة عباءة من ثياب الجمالين كان صاحبها نسيها عندهما وقبلت راس أخيها وغطته وخرجت من عنده وهي تبكي ، ثم توجهت الى امير القدس لتخبره بأمرهما ليبلغ اباها ويكتم الخبر ، ولكن حاجب الأمير منعها من الدخول ، فوجدها احد التجار عند الباب فقال لها: ما حاجتك ابلغها للأمير ، فقالت له: اريد مالآ اشترى به جملآ احمل عليه مريض لأوصله إلى دمشق وأدخله المارستان لعله أن يبرأ ، فقال لها التاجر: هذا امر لا يحتاج الى الأمير ، ثم ذهب بها الى خان الجمالين ، واكترا لهما جملآ على نفقته ليوصلها الى دمشق ، فلما ذهب الجمال بجمله الى ضوء المكان ليحمله ، قال الجمال لنزهة الزمان: كيف أمضي بهذا المريض وهو مشرف على الموت ، وإمتنع عن حمله وعاد الى التاجر فأخبره ، فذهب التاجر لمشاهدة ضوء المكان فلما نظر اليه قال لأخته: انما اضعفه الجوع اكثر مما اضعفه المرض ، ثم ذهب الى السوق واشترى عشر دجاجات وأتى إلى نزهة المكان ، وقال لها: اذبحي له في كل يوم اثنتين واحدة في أول النهار وواحدة في آخر النهار ، فقالت له نزهة الزمان: جزاك الله خيرآ ، ما يكون لمثلك ان يحمل مثل ذلك ، فقال لها: انما حملته لله ، فضننت ان يشاركنى فى الأجر غيرى ، ثم انصرف ، فقامت وذبحت دجاجة وسلقتها، وأتت بها إلى ضوء المكان وأطعمته إياها وسقته من مرقتها، فلما فرغ من الأكل قدمت له ماء مسخناً فغسل يديه واتكأ على الوسادة وغطته بملاءة فنام إلى العصر ثم قامت وسلقت دجاجة أخرى وأتته بها واخذت تطعمه ، ولم تمر غير ثلاثة ايام حتى تعافى ضوء المكان ، فأحضر له التاجر ثوباً من ثيابه وعمامة لطيفة وأعطاه حزاماً فقال له ضوء المكان: أنت الذي منّ الله بك علي وجعل سلامتي على يديك، فقال التاجر: دع عنك هذا الكلام وقل لي ما سبب مجيئك إلى مدينة القدس ومن أنت فإني أرى على وجهك آثار النعمة وعلى اختك اثار العزة ، فقال له ضوء المكان: كم بيننا وبين دمشق الشام ، فقال له: وماذا تريد من دمشق الشام ، فقال ضوء المكان: هل لك أن تكترى لنا جملآ فيوصلنا اليها ، فقال له التاجر: والله لا يوصلك انت واختك اليها غيرى ، فأضمن وصولكما اليها فى أمان وسلام ، فإنتظر فإنى اعد قافلة للتجارة الى دمشق وسوف تخرج ان شاء الله بعد ثلاثة ايام وسوف احملكما معى ، فوافق ضوء المكان وشكره ، وبعد ثلاثة ايام تحركت القافلة وقدر الله لها ان تصل دمشق فى سلام وأمان ، ولكن عند احد ابواب دمشق وحيث تدخل القوافل فتدفع العُشر على ما تحمله من بضائع ، اختلف التاجر مع عمال الأمير شرمان على قيمة العُشر ، وحدث بينهما نزاع ، فقيض الجند على التاجر ، فحاول ضوء المكان تخليص التاجر من الجند ، ولكن الجند اخذوا ضوء المكان والتاجر واودعوهما السجن ، فقالت نزهة الزمان لعمال الأمير شركان: انا زوجة التاجر وقامت بدفع العُشر من التجارة ودخلت القافلة الى دمشق، توجهت نزهة الزمان على الفور الى قصر الأمير شركان لتشكوا له ما حدث من عماله ، وتخلص اخيها ضوء المكان والتاجر من السجن ، فدخلت عليه وقد اسدلت على وجهها ما يحجبه ، وشركان جالس فى مجلس الإمارة والحكم، والقاضى والوزراء والعلماء يجلسون بين يديه.
● [ للحكاية بقية ] ●
الحكايات مقتبسة من الف ليلة وليلة إعداد مدير منتدى توتة وحدوتة منتدى توته وحدوتة - البوابة